أسباب المساعدات المالية الخليجية للعراق في حربه مع إيران
إن دور إيران في الخليج ينطلق من أسئلة أساسية عدة كانت مؤشرا في تحديد هوية الدور الإيراني ودوافعه الحقيقية، والسؤال الأول هل للسوابق التاريخية والحقائق الجغرافية هي التي أثرت على أحداث الحرب.
ولا شك في أن الصراع لاحتلال المركز الأقوى والأهم في الخليج ليس وحده العامل الحاسم في كل الذي يحدث اليوم بين العرب والفرس. صحيح أن هذا الصراع هو النهاية من أجل مركز ما في الخليج، إنما يجب التذكير بأن الوضع الجغرافي مثلا، لا ينفرج في تقرير دور إيران الآن، كما كان يقرره في الماضي، إذ ليس صدفة أن يكون الاعتقاد التاريخي السائد لدى الإيرانيين أن الخليج "بحيرة فارسية" وأن يصر هؤلاء بالتالي عل أن دورهم الحالي ما هو إلا تتمة لدورهم التاريخي السابق.
فقد كان حكام إيران، يعتزون تاريخيا بأن بلادهم هي "أول دولة مستقلة في العالم" يضاف إلى ذلك أن الجيش، الذي هو العمود الفقري للاستقرار الداخلي، دفع، عند تقويته، كل حاكم إلى التطلع نحو الخليج. وإذا كانت الظروف الداخلية المريحة هي التي كانت تقرر إلى حد ما، إذا كانت إيران تستطيع أن تلعب دورا كبيرا في الخليج، أم لا، فإن الظروف الخارجية كانت تحد من حرية الحركة لدى الإيرانيين بمقدار ما كانت تساعد هؤلاء وتشجعهم على العمل في الخليج والاضطلاع بدور أساسي وفعال.
لكن كيف تتفق وأين تصطدم المصالح الإيرانية والمصالح العربية في الخليج؟
إن اهتمام الشاه السابق بالخليج بدأ عام 1958، أثر ثورة العراق التي أطاحت بالملكية وتولي عبد الكريم قاسم الحكم، قبل ثورة العراق كان الشاه محمد رضا بهلوي يتابع تطورات العالم العربي من دون خوف منها، وكانت إيران على علاقات من دون خوف منها، وكانت إيران على علاقات ودية مع معظم الدول العربية بما فيها سوريا ومصر، حتى أنها أيدت مصر في حرب السويس عام 1956، ذلك بأنها كانت تشعر بأن وضعها في الخليج سليم ما دامت الملكية قائمة في العراق، الدولة الشريكة لها في حلف بغداد.
ومنذ ذلك الوقت والعلاقات العربية- الإيرانية تسير من سيء إلى أسوأ كلما كان الخلاف يشتد بين الشاه السابق والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بل كلما اتسع مد القومية العربية بزعامة عبد الناصر وأحزاب اليسار في العالم العربي معمقا الفجوة بين الدول العربية "التقدمية" والدول العربية "الرجعية" وكلما أصبحت إيران طرفا في الحرب العالمية الباردة في الستينات والسبعينات. إلا أن الخلاف حول الخليج لم يقتصر على الدول "التقدمية- الثورية"، بل تعداه إلى الدول "اليمينية- الرجعية".
فقد اختلفت إيران من جهة والسعودية والكويت من جهة أخرى عندما عرضت إيران للمناقضة التنقيب عن النقط في المنطقة التي تشكل جزءا من الجزف القاري بين الدول الثلاث، وسوي الخلاف وديا مع الكويت عام 1965، ومع السعودية عام 1968.
ثم تجدد الخلاف مع السعودية حول السيادة على جزيرتي فارسي وعربي التابعتين للسعودية واللتين تطالب بهما إيران، ولم يحل هذا الخلاف إلا عام 1971.
ثم كان خلاف إيران والعراق حول شط العرب الذي بدأ منذ أيام الشاه رضا، والد الشاه السابق، عندما حاول رضا خان أن يثبت وجوده في الشط ويؤكد موقع بلاده من الخليج، ورفع العراق الأمر إلى عصبة الأمم في 29 نوفمبر 1934، ومحاولا الحصول من مجلس العصبة على اعتراف بحق قانوني في ممارسة السيادة على الشط كله، إلى جانب ممارسته سيادة الأمر الواقع. وقاومت إيران الموقف العراقي، إلى أن تم الإتفاق بين الطرفين على نقل الخلاف إلى خارج عصبة الأمم، ومن ثم تم اتفاق على حدود شط العرب في 4 جويلية 1937. واستمر الاتفاق الأخير ساري المفعول إلى أن ألغته إيران من طرف واحد في 19 أبريل 1969. وكان سببا مباشرا لنشوب الحرب مع العراق بعد عقد كامل من الزمن.
وإذا أخذنا مجمل الخلاقات العربية- الإيرانية في الخليج، نجد أن الخلاف حول شط العرب له أهمية خاصة بالنسبة إلى إيران، فشط العرب قريب من خورنستان (عربستان) وهي منطقة تمرد محتمل في استمرار، وقريب من منابع النفط فيها، وقريب من عبادان ومصفاتها الكبيرة ومعداتها الكثيرة والتي هي على مرمى النار من شط العرب، وقريب من سد "دز" ومشاريع الري والكهرباء في تلك المنطقة. وازدادت أهمية شط العرب بازدياد الخلاف حول القضية الكردية، التي –كانت وما زالت- تتولى إيران تصعيدها عندما تناسبها الظروف.
تضاف إلى ذلك الحرب العربية- الإسرائيلية واحتمال اشتعالها مجدا في أي وقت وتتغير المقاييس الدولية والمحالفات الإستراتيجية وازدياد الأهمية الاقتصادية للعراق ودول المنطقة، فإذا كان مضيق هرمز أهم مركز استراتيجي سياسي- عسكري لإيران شرق الخليج، فإن شط العرب هو المركز الذي لا يقل عنه أهمية غرب الخليج.
وجاء احتلال إيران لجزر أبو موسى والطنب الكبرى والطنب الصغرى في 30 نوفمبر 1971، بعدما كان الخلاف حول البحرين قد سوي بإسقاط المطالبة الإيرانية بها وإعلان استقلالها في 14 أوت 1971، صفعة قوية للذين كانوا يقولون أن إيران لن تلجأ إلى القوة في حل خلافاتها مع العرب، ولم تتحدث إيران عن حقوقها التاريخية المغلوطة في الجزر العربية الثلاث إلا بعدما سويت قضية البحرين، فأهمية الجزر سياسية واستراتيجية ولا أساس تاريخيا صلبا للمطالبة بها. وكان توقيت إيران لاحتلالها الجزر بارعا. إذ حدث قبل شهر تماما من انسحاب بريطانيا نهائيا من الخليج وفي الوقت الذي لم تكن بريطانيا فيه تستطيع القيام بأي إجراء عسكري مضاد، كذلك كان العالم مشغولا بالحرب الهندية- الباكستانية التي أسفرت عن انفصال باكستان الشرقية وإعلان استقلال بنغلادش، وكانت أزمة الشرق الأوسط في أوج توترها، كما كان خطر قيام حرب جديدة مع إسرائيل قريب الاحتمال. لذلك فشل الإيرانيون في فهم الاستياء العربي من عملية الاحتلال، الذي كان أول احتلال حقيقي منذ الحرب العالمية الثانية، خاصة أن ردود الفعل العربية جاءت مختلفة ومتناقصة ومتباعدة.
وحدث تغيير مفاجئ، عندما أعلن في الجزائر في 6 مارس 1975، أثناء انعقاد مؤتمر القمة للدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبيك)، باتفاق عراقي- إيراني ينهي الخلاف العريق بين البلدين حول قضيتين أساسيتين:
- الأولى: إنهاء المساعدة الإيرانية للأكراد بزعامة الملا مصطفى البارزاني، وبالتالي نهاية الحرب الكردية- العراقية وتصفية جيوبها كليا.
- الثانية: تخطيط الحدود البرية (شمال العراق) والنهرية (شط العرب) للبلدين في شكل نهائي.
وكان التفسير المنطقي لهذا الاتفاق أنه يحقق ما يلي:
1- وقف الخطر الحرب بين أكبر دولتين هما إيران والعراق وصيانة الأمن والاستقرار في المنطقة.
2- إزالة حالة التوتر والشكوك بين دول المنطقة وفتح آفاق واسعة بينها وحل مشكلات كانت قائمة. وهذا بالتالي يؤدي إلى تلاحم عربي- خليجي يجعل من عرب المنطقة قوة تعاون وأمن واستقرار كبيرة.
3- عودة العلاقة الطبيعية مع إيران إلى جانب ما يشكل التلاحم الخليجي من قوة مضاعفة.
4- احتمالات التدخل الأمريكي في دول النفط تضمحل أو تقل إلى حد كبير، لأنه لم يعد في استطاعة الولايات المتحدة استغلال خلال خليجي محلي، ولو استمر هذا الخلاف لكان في وسع واشنطن مثلا أن تستغل حادث ضرب باخرة في الخليج، أيا تكن جنسيتها واعتبارها، كمبرر للتدخل، بحجة الحفاظ عل الملاحة وتأمين وصول الطاقة إلى الدول الصناعية. لكن بعد التفاهم الإيراني- العراقي سدت ثغرة وزالت كل مبررات التدخل الأمريكي الذي يمكن أن يحدث، لكن من دون أن تستطيع واشنطن إيجاد أي عذر لها أمام المجتمع الدولي.
5- إبقاء الموازين الدولية على ما هي عليه، دون تغليب الكفة الأمريكية على غيرها.
6- الإبقاء على وحدة منظمة، "أوبيك" والدليل على ذلك ترحيب دول النفط في العالم وإجماع مندوبيها في قمة الجزائر على الإشادة بالاتفاق العراقي- الإيراني، كما أن دول النفط في أمريكا الجنوبية أعلنت صراحة أن الاتفاق هو انتصار لمنظمة الدول المصدرة للنفط وتعزيز لوحدتها التي كانت مهددة، وهذه الوحدة إذا استمرت لا بد أن تخلق وحدة عالمية هي في خدمة مصالح العالم الثالث.
لا شك في أن الانسحاب البريطاني من الخليج ومضاعفاته قد وفرت لإيران الأسباب الكاملة للسيطرة والتدخل، ذلك بأن إيران لم تكن لتقبل أن تملأ الفراغ العسكري والسياسي الذي تركته بريطانيا، أي من الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فهي تعتبر نفسها الوريثة الشرعية للتاج البريطاني وأن أمن الخليج هو مسؤوليتها، مع بعض التعاون مع السعودية والكويت والعراق إذا أمكن.
فإيران كانت تعرف أن عليها أن تعتمد على قوتها فقط للحفاظ على ما يسمى "أمن الخليج" لأن لا سبيل للتوصل إلى اتفاق حول هذا الموضوع مع دول الخليج العربية. وإذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يشتركان في الرأي في أن الأمور الخليجية يجب أن تعالجها دول الخليج نفسها لا دول أخرى، فإن من الصعب التصور نظرا إلى أهمية المنطقة، أن الخليج سينجو من المنافسة الأمريكية- السوفياتية. فالفجوة بين الموقف الأمريكي-السوفياتي المعلن والنظري، وواقع المنافسة أو الخلاف الأمريكي- السوفياتي قد ازداد، لأن القوتين أدركتا أن مصالحهما في الخليج أكبر وأهم من أن تترك لسياسة عدم التدخل نهائيا.
إلا أن دور إيران في الخليج، أساسي وضخم، ولا يجوز التقليل من أهميته أو حجمه، فإيران أقوى دول الخليج عسكريا وبشريا، وهي تعتبر أن الخليج بحرية إيرانية سميت مجازا الخليج العربي، إذ استبدل العرب كلمة "فارسي" بكلمة "عربي" رفعا لمعنوياتهم لا غير، وعلى هذا تتصرف إيران تصرف القوي العارف قوته الحقيقية، الواضح المطامع والأهداف والمحدد السياسة في المنطقة كلها، ومطالبها قديمة، إلا أنها لم تتحول من مجرد مطالب إلى خطر إلا مع رفع المظلة البريطانية، واعتبرت إيران نفسها أنها ذات الحق الوحيد في ملء الفراغ.
وقضية إيران لا تنتهي فالقوة الإيرانية ذات شقين:
الأول: القوة العسكرية، التي تعتبر الأبرز في المنطقة والتي تدعم إيران مطالبها بها.
الثاني: القوة المدنية الممثلة في الجالية الإيرانية الضخمة الموزعة من الكويت شمالا، حتى رأس الخيمة جنوبا.
فطعن التهديد باستخدام الأولى، وتحريك القوة الثانية بدعوتها إلى عصيان مدني تستطيع إيران، كما تعتقد، أن تحقق أغلب مطالبها وربما مطامعها. يضاف إلى ذلك اعتبار إيران نفسها الدولة الحامية للشيعة، من العراق شمالا إلى سلطنة عمان جنوبا، محاولة استمرار تشويه ولاء الشيعة العرب في الجزيرة العربية والخليج، أكانوا في عسير شرق السعودية، أو في البحرين أو عمان، من دون أن ننسى شيعة العراق، فإقحام شيعة الخليج في عملية المطامع الإيرانية، ووضعهم تحت مظلة الحماية الإيرانية، وبالتالي تعريضهم للتشكيك الدائم في وطنيتهم وعروبتهم، لم تعط أية نتائج إيجابية حتى الآن، لكنها تعرض المنطقة في استمرار للانقسام الطائفي الذي لم تعرفه منذ أيام الحجاج بن يوسف.
من علي مشارف الأحقاد التاريخية التي تذكيها إيران في الخليج، ومن على أعتاب الشكوك الحضارية الفاصلة بين الفرس والعرب، ومن جذور خلافات الاجتهاد بين مسلمي الشيعة والسنة كانت إيران وما زالت تجد منفذا واسعا وبابا مفتوحا ونافذة مشرعة لتدخل إلى ركاكة الكيان العربي، فتشتري صمت العرب بأبخس الأثمان، ومن دون أن يدرك العرب، خليجيتين ومشرقيتين، أنهم أمام تجدي صيرورة المستقبل كله.
في قراءة سريعة للتاريخ الإيراني- الفارسي يتضح أن أي حاكم لإيران كان يوجه عاملين أساسيين: الدين والجغرافيا. ومن خلال هذين العاملين كان يتم التحكم في السياسة الإيرانية خلال تعاملها مع العرب، لم يكن هاجس إيران خلال السنوات الخمس عشرة الماضية كما كانت تدعي، إيقاف زحف الجليد السوفياتي إلى منابع النفط الدافئة، ولا إيقاف أطماع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عند حدود الهند، لقد شغلت العلاقات العربية- الإيرانية فترة السبعينات كلها. شغلت العرب وشغلت الصين الماوية وجاءت الثمانينات بالحرب العراقية- الإيرانية لتدمر نهائيا هذه العلاقات، وتعيد الزمن إلى الوراء وتفضح الأطماع الفارسية على حقيقتها.
هبط الخوف على كل ما أحاط العلاقات العربية- الإيرانية، بدءا من تناقضات مسيرة التاريخ الإسلامي المشترك الطويلة والعلاقة المتنافرة الفريدة بين الشعبين العربي والفارسي وانتهاء بعبء التراث من تطلعات الحاضر ودروس الماضي واستقراء المستقبل. كان كل ما في العلاقات العربية- الفارسية يعد بالخوف ولم يزل هذا الخوف بزوال الشاه، كان الخوف العربي في حينه خوفا جغرافيا بل تضاعف بوجود خميني. لقد أصبح خوفا دينيا تدفعه طموحات جغرافية، تأجل هذا الخوف فترة قصيرة من الوقت ما بين سقوط الشاه وتولي خميني السلطة، أجل العرب هذا الخوف تفاؤلا منهم. واغتال آيان الله ألا يرانيون التفاؤل العربي ببراعة فريدة، وظل بين الهاجس الإيراني والخوف العربي خيط رفيع يفصل بين الضعف العربي والرعونة الفارسية.
اعتبرت إيران أن الخليج بحرية فارسية وان عربستان جزء من فارس الكبرى وأن البحرين جزيرة "إيرانية" طالب بها رضا خان سنة 1927 واقتطعتها العرب وبريطانيا من "الوطن الأم" ولها في مجلس النواب الإيراني حتى عام 1971 نائب يمثلها باعتبارها المقاطعة الحادية والعشرين. وإن ما رضخ له الشاه تجاه الضغط الدولي، رفضه خميني الذي عاد مطالبا بالبحرين كجزء من إيران محاولا قلب نظام الحكم فيها سنة 1981 وأن تجديد المطالبة "بفارسية" البحرين تمت في عهد الثورة الإسلامية التي تطلع إليها كل العرب انتصارا وفرحا وإعجابا.
لكن المطالبة بالبحرين لم تسقط مجانا لقد استعاض عنها الشاه باحتلاله ثلاث جزر عربية هي: الطنب الكبرى والطنب الصغرى وأبو موسى، التابعة لكل من رأي الخيمة والشارقة، الإمارتين العضوين في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويوم سقط الشاه واطلت ثورة خميني منتصرة وهلل العرب لها، وطالبوا بإعادة الحق الذي اغتصبه الشاه- الطاغية الذي أسقطته الثورة- جاء الجواب من آيات الله الحاكمين في طهران: أن هذه الجر فارسية وستبقى فارسية، وأصبح منذ ذلك التاريخ للقوة الإيرانية- الشاهنشاهية والخمينية- مطل مبنى عل العجز العربي المتأصل والفهم الدولي لهذا نفسه العجز الدائم.
واعتبر الشاه نفسه صاحب الحق الوحيد في ملء الفراغ الناتج عن انسحاب بريطانيا في نهاية 1971، وأن بلاده هي الوريثة الشرعية لمصالحها ومصالح الغرب في المنطقة الخليجية بحكم كونها أقوى الدول المجاورة من الناحية العسكرية والاقتصادية والبشرية معتمدة على هذا العجز العربي المتأصل وبحكم مالها في الجالية الإيرانية المنتشرة في كل دول الخليج من عناصر يمكن الاعتماد عليها كليا عند الحاجة.
عندما أطلق الشاه العنان للعسكريتاريا الإيرانية، بأسلحتها وعتادها وعددها ومدربيها من الأمريكيين والبريطانيين وأصبحت بحريتها الأقوى في المحيط الهندي وطيرانها يغطي سماء الجزيرة العربية وجيشها يقف على مشارف بلاد اليمن العربية ومخابراتها تحصى أنفاس الملائكة في المنامة والدوحة ودبي وأن القيوين لم نسمع بوقفه عربية واحدة تحاول أن تضعه عند حده. وبذلك حددت العسكرتاريا الإيرانية معالم الأطماع الإيرانية وعززت غرور الشخصية الفارسية في تعاملها مع العرب. ولا اعتقد أن أحدا من السياسيين العرب، وخاصة الخليجيتين من الذين تعاملوا مع الإيرانيين منذ عام 1967، ينكر مدى التعامل الفوقي الذي كان يمارسه الإيرانيون، وأصبحت السياسة الإيرانية في المنطقة العربية تعتمد على التهديد والترغيب، العصا أو الجزرة، العصا لمن تمرد والجزرة لمن أطاع، وبذلك استطاعت أن تضع يدها على هواجس الضعف العربي في كل مكان.
والحرب العراقية – الإيرانية ما هي إلى نهاية منطقية للدور الصدامي التاريخي الذي أهلته لها الظروف السياسية في المنطقة، فجذور الخلاف العربي- الفارسي قائمة في الأصول الثقافية والحضارية والقومية والمتباعدة والمختلفة للشعبين. والمشاركة والمساهمة في الحضارة الإسلامية لم تغيرا من أحقاد العرب والفرس وتباعدهم قبل الإسلام. والشخصية الفردية في الأمتين لم يلغ الإسلام منها شيئا ولذ يذبها، ولم يحقق العرب عن طريق الإسلام اندماجا عضويا أو وحدويا مع الفرس. بل استطاع الفرس أن يغيروا الكثير من المفاهيم الأولية والأصلية للإسلام كما جاء به العرب. فلقد كان لبلاد فارس عبر التاريخ شخصية مميزة وحضارة مستمرة وحدود مستقرة إلى حد ما، ذلك أن الفرس كأمة ليسوا كالعرب ممزقين بين الشعور الوطني القومي والأعزاء الإسلامي الأوسع. لقد تخطى الانفصال الجغرافي، مع اللغة والثقافة المميزة للفرس، الشعور الديني المشترك مع العرب وغيرهم من مسلمي العالم، وجاءت المفاهيم السياسية الحديثة لتصعد من حدة الخلافات بين الفرس والعرب، مكرسة عدم الثقة المشتركة ومعمقة قوة الخوف المتبادلة.
كان لحكام إيران طموح دائم إلى لعب دور أساسي في الخليج وكثير ما كانت شخصية الحاكم الإيراني هي التي تقرر دور بلاده في الخليج، من داريوس الكبير والملوك الساسانين في التاريخ القديم إلى الشاه عباس الكبير إلى نادر شاه إلى الشاه محمد رضا بلهوي إلى آية الله خميني في التاريخ الحديث، كلهم كانوا يسعون إلى احتلال المركز الأقوى والأهم في الخليج ويؤججون الصراع من أجل هذا الدور.
أراد الشاه السابق محمد رضا بلهوي أن يملأ الفراغ البريطاني في الخليج كوال فترة السبعينات، بدعم وتشجيع وتسليح وتحريض من الغرب، عندما لم سكن في الخليج في تلك الفترة طرف عربي ويملأ فترك الأمر للأسد الفارسي وشمسه بالأصالة والوكالة، وأراد أية الله خميني أن يملأ الفراغ الثوري في الخليج عن طريق الإسلام في بداية الثمانينات بتصدير ثورة لا تصدر فجاء عن طريق التحريض الديني المذهبي والعرقي يدعو إلى شيء غير مألوف ولا مقبول ولا سابقة تاريخية له عند العرب.
واتضح مجدا اتساع الهوة في المفهوم القومي والمفهوم الثوري بين العرب والفرس. فالفكرة القومية عند العرب كانت دائما متصفة بالتسامح الديني والتآلف العرقي والتآخي المذهبي والتعددية الشخصية. بينما كانت الفكرة القومية عند الفرس مغلقة دائما بالعرقية التي أدخل عليها الشاه الطابع الآري وبالشوفينية المعادية لكل ما هو غير فارسي، حتى الإسلام- وفي المذهب الشيعي الجعفري الإثني عشري- أصبح له مدلول مختلف عن غيره من الشيعة غير الإيرانيين وطابع فارسي صرف بل وحتى طقوس قلما تمارس خارج إيران.
لقد ظلت الطموحات الإيرانية الجديدة في الخليج تستلهم الأحلام الفارسية الماضية مصرة على أن دور الثورة الإسلامية في إيران حاليا ما هو إلا تتمة لدور ثورات "ملوك الطوائف" التاريخي، لذلك لم تستطع ثورة خميني أن تتجنب الانزلاق ضد العرب ما دامت تتحكم فيها عقلية القرن العاشر الهجري.
لماذا قطعت السعودية علاقاتها مع إيران
بالرغم من أن الحج مناسبة دينية لها قداستها وحرمتها، وبالرغم من أن المسلمين الذين يحجون إلى بين الله الحرام يتوجهون إلى مكة وإلى عرفات وإلى المدينة المنورة والخشوع يملأ قلوبهم وعبادة الله وتقواه هي نبراسهم، إلا أن إيران منذ تولي أمرها آية الخميني حاولت تحويل مناسبة الحج إلى غير مفهومها الديني، وخرقت آيات القرآن الكريم التي تقول بأنه "لا رفت ولا فسوق ولا جدال في الحج" ونادت بانتهاز المناسبة الكريمة من أجل التظاهر ومن أجل رفع الشعارات السياسية المفرضة.
ويبدو أن السبب الرئيسي الكامن وراء سياسة أية الله الخميني كان تنفيذ الهدف نادى منذ بداية ما ادعاه من "ثورة إسلامية، بتصدير هذه الثورة، خاصة إلى الدول المجاورة مثل السعودية والكويت.
وقد حاولت السعودية مرارا وتكرارا بواسطة سياسة النفس الطويل والصبر في التعامل مع نظام الخميني تعبيرا على الأسلوب الإيراني، ولكن تلك السياسة لم تلق التفهم الواجب من طهران، بل أنه في كل مرة كانت السعودية مضطرة فيها للوقوف في وجه تحرشات النظام الإيراني الذي كان يتراجع ويخفف من حدة مواجهاته.
ومن أمثلة ذلك أنه عندما صعدت طهران من هجومها على السعودية بدعوتها لسكان المنطقة الشرقية إلى تخريب المنشآت النقطية في أبريل 1984 ومواجهة الرياض لتلك الدعوة التخريبية، غيرت طهران من لهجتها العدوانية وبدأت تلعب بورقة الصداقة والتفاهم.
ويجمع المراقبون على أن السبب في تحول إيران من العدوان إلى الاعتدال في ذلك الوقت هو حادث إسقاط الطائرتين الإيرانيتين خلال محاولتهما الاقتراب من المنشآت البترولية السعودية في مهمة استطلاعية.
والحقيقة هي أن العلاقات الإيرانية السعودية كانت على الدوام تخضع لعوامل عديدة لعل أهمها:
أولا: كراهية الخميني للسعودية باعتبارها القاعدة الإسلامية الكبرى التي يتطلع إليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
ثانيا: الخلط الذي انتاب السياسة الإيرانية بعد سيطرة الغوغائية على قادة طهران، فقد بدأ هؤلاء القادة- كما نعرف جميعا- بتركيز هجومهم على الشيطان الأكبر أي أمريكا، ثم تطوروا وبدئوا يهاجمون الحكومة السعودية، وكشفوا عن وجههم الحقيقي بعد ذلك حينما أصبحت بياناتهم تدور وتلف صراحة حول هذه الحكومة.
ثالثا: الخطأ الذي ارتكبته حكومة الخميني حين اعتقدت أنه في وجود عدنان الخاشنجي وهو تاجر سلاح عالمي من أصل سعودي، ومطرود من الأراضي السعودية، ووجوده في قضية إيران-غيث، يعتبر دليلا على موافقة السعودية على الاتصالات السرية والإيرانية الأمريكية، وتناست طهران- بسذاجة غربية- أن تحقيقات لجنة تاور التي تناولت فضيحة "إيران-غبت، أكدت أن الخاشنجي كان الممول الرئيسي لصفقات الأسلحة الإسرائيلية الأمريكية التي شحنت إلى إيران في عامي 1985-1986 وعلى أية حال فإنه سجل العلاقات بين طهران والرياض كان على مدى الأعوام العشرة الماضية أي منذ قيام ثورة الخميني خاضعا للذبذبة وعوامل المد والجزر…فقد كانت طهران كلما قوبلت بموقف متفهم من السعودية تعتبر هذا الموقف مؤشرا على خوف سعودي من إيران وكانت تحاول استغلاله لتحقيق أطماعها الإقليمية أو الدولية.
وبلغ من صفه حكام إيران أنهم خلال زيارة وزير خارجية طهران على أكبر ولاياتي في عام 1976 للرياض، أنهم أضاعوا هذه الفرصة لتحقيق لون من التقارب بين السعودية وإيران، وخاصة أن ولاياتي استقبل بترحيب كبير من الحكومة السعودية… ففي الوقت الذي كان ولاياتي يصرح فيه بإمكان قيام علاقات تاريخية متميزة بين طهران والرياض اتصل رئيس وزراء غيران بسفارة إيران بالرياض وأمر بقطع الزيارة وعودة وزير خارجيته فورا على طائرة خاصة أرسلت على وجه السرعة إلى الرياض ! !
ثم جاءت أحداث مكة خلال موسم الحج في عام 1987 لتؤكد أن طهران لا تعتبر السعودية عدوها الرئيسي فحسب، بل إن حربها ضد العراق ما هي إلا مقدمة لحرب أوسع نطاقا ضد السعودية والكويت.
ونذكر هنا أن أول مرة اكتشفت فيها السعودية وجود مخطط إيراني لتحويل مناسك الحج إلى مظاهرة سياسية ترفع فيها شعاراتها المفرضة كانت في 1983 حين عين الخميني، محمد موسوى خونيني ها، أميرا للحج ودس بين جموع الحجاج ألافا من أفراد الحرس الثوري استعدادا وتحسبا للمواجهة المحتملة مع البوليس والأمن السعودي…. وقد فشل المخطط الإيراني في حينه. وبالرغم من ذلك استمرت طهران في محاولاتها الرامية إلى إفساد موسم الحج وإخراجه عن هدفه الديني النبيل.
وما وقع في عام 1984 حينما اكتشفت سلطات الأمن السعودي المحاولة الإجرامية لدس المتفجرات وتهريبها إلى السعودية، وسكتت السعودية على ذلك حرصا منها على المحافظة على جلال موسم الحج بحيث لم يكشف عن محاولة تهريب المتفجرات إلا في لعام 1987.
وقد مارست إيران حملة إعلامية واسعة النطاق ضد السعودية، وهي حملة نفسية تستهدف إجبار الرياض على الموافقة على إدخال 150 ألف حاج إيراني، وهل هؤلاء الحجاج هو زوار بيت الله الحرام فعلا، أم هم من أفراد الحرس الثوري محترفي الشغب والعنف؟
وقد فشل المخطط الإيراني وجدت الحكومة السعودية نفسها في مواجهة تهديدات وأقدمت على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع حكام طهران لكي يتوقفوا، ويفكروا في سياساتهم التهجمية تجاه السعودية، فأعلنت الرياض أنها حددت عدد الحجاج الإيرانيين في ذلك الموسم، وأن على حكومة طهران أن تحترم إرادة الحكومة السعودية وسيادتها على أرضها. وقابل الإيرانيون ذلك بالدهشة، فقد كانت الخطوة السعودية أكثر من مفاجأة لهم.