Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار/الاستراتجية العسكرية لثورة /صالح مختاري

 

الاستراتيجية العسكرية في حرب التحرير الجزائرية

 

إن الإستراتيجية  العسكرية هي فن القيادة العسكرية، وموضوعها هو الحرب، وهدفها  هو تحقيق النصر العسكري في عملية تصارع أرادت متباينة.

والمعارك العسكرية عبر التاريخ تتشابك فيها عوامل مختلفة ومعقدة، اقتصادية، مالية، سياسية، إيديولوجية، حضارية، تقنية... ولذا فإن الإستراتيجية في الحقيقة ليست سوى فن السيطرة على جميع موارد الأمة بما فيها القوات المسلحة واستخدام هذه الموارد أفضل استخدام، وإلى أقصى حد ممكن لتحقيق النصر. وفرض إرادة الأمة.

واجتهادات منظري الفن الإستراتيجي الذين زخر بهم النصف الثاني من القرن الماضي، تمخضت عنها ظهور الإستراتيجيتين عسكريتين وضعتا موضع التطبيق منذ بداية هذا القرن، وهاتان الإستراتيجيتان هما:

-الإستراتيجية المباشرة، أو "إستراتيجية إفناء " التي تؤمن بالعنف والصدام، وترى بأن الدماء هي ثمن النصر، وبأن القوة هي وسيلته. ومن مظاهر هذه الإستراتيجية قيام الصراع   بين جيوش جرارة، مع الاعتماد على حرب نفسية واسعة لكسب هدف الحرب.

-الإستراتيجية غير المباشر، "إستراتيجية إجهاد"، وقد كانت المبدأ الحاسم للدول الاشتراكية، وأيضا في الحروب الثورية والتحريرية، ومن مظاهرها أنها حرب طويلة الأمد، تعتمد على قوى الجماهير العريضة في بلوغ هدفها الإستراتيجي.

ولقد كانت هاتان الإستراتيجيتان الأساس الذي انبثقت عنه جميع الإستراتيجيات المعاصرة التي وإن اختلفت من حيث طرائق العمل والسبل تحقيق الغايات، إلا أنها تتفق على أن الحرب عمل وطني تشارك فيه الأمة بكل ما أوتيت من قوة ومواهب وموارد وقدرات مادية ومعنوية لا دحض الخصم وبلوغ هدف الحرب...ولا يعنينا هنا تتبع المسالك التي تدرجت فيها هذه الإستراتيجيات وعوامل تطورها ومحمياتها، بقدر ما يهمنا الحديث عن مسائل ثلاثة لما لها من أهمية في توضيح معالم إستراتيجية جبهة وجيش التحرير الوطنيين.

الأولى، وهي أن حرب التحرير الوطني بحكم الظروف المعشية اتئد، اختارت النهج الثوري في كفاحها المسلح، والابتعاد ما أمكن عن المواجهة المباشرة مع العدو، وهو ما تجلى واضحا منذ أول وهلة حين لاذ مفجرو الثورة للاحتماء بالجبال، واعتمادات (أي الجبال) كمركزه في تنفيذ عملياتهم الخاطفة التي أعقبت ليلة التفجير.

الثانية، وهي أن علماء الإستراتيجية على الرغم من أنهم يقرون بالصفة المتبدلة للحرب التي تجعل من الصعوبة بمكان إدراج فن الإستراتيجية العسكرية ضمن قوالب، أو حصره ضمن نماذج معينة، إلا أنهم مع ذلك حاولوا كل بطريقته،     إيجاد نماذج إستراتيجية، وقالوا أنها تحقق الهدف الإستراتيجي رغم الظروف و المواقف المتغيرة للحرب، وهذه النماذج التي تعرض لها أكثر من إستراتيجي، نجدها أكثر تنسيقا ووضوحا في كتاب الجنرال (بوفر) السالف الذكرى، حيث أورد خمسة نماذج الإسترتيجيا هي:

1-               إذا كان سبب النزاع صغيرا وكانت الإمكانيات المتوفرة قوية جدا، فإن مجرد التلويح بهذه الوسائل كاف لإخضاع الخصم  وحمله على القبول  الشروط المفرودة والانقياد للإدارة الوطنية.

2-               إذا كان سبب النزاع صغيرا، وكانت الإمكانيات محدودة لا تكفي لتحقيق تهديد حاسم، فإن البحث عن النتيجة الحاسمة يكون عبر أعمال خداعية مناورات سياسية واقتصادية.

3-               إذا كانت الوسائل المتاحة محدودة، ولكن الهدف كبير، فإن بلوغ النتيجة المرجوة يكون بسلسلة  من الأعمال المتعاقبة بقوات محدودة تحقق الهدف بصورة متدرجة.

4-               إذا كان حقل حرية العمل العسكري واسعا، ولكن الوسائل المتوفرة لا تكفي للوصول إلى نتيجة عسكرية حاسمة، أمكن اللجوء إلى الإستراتيجية  صراع طويلة الأمد تنهك العدو ماديا ومعنويا، وقد تكون الوسائل المستخدمة في هذه الإستراتيجية بدائية للغاية(كالحجارة في فلسطين) إلا أن حسن استخدامها يجعل العدو يبذل جهدا أكبر من أن يتحمله إلى ملا نهاية.

5-               إذا كانت الوسائل العسكرية المتوفرة قوية ومجال حرية العمل العنيف كاف، فإن تحقيق النتيجة الحاسمة يكون عن طريق صراع عنيف قصير الأمد، وقد يكفي ذلك لإرضاخ الخصم إن كان سبب الصراع  غير حيوي بالنسبة إليه، وإلا فإن احتلال جزء من أرضه كاف لتجسيد هذه الهزيمة وإخضاعه للإرادة القومية.

وما تجدر الإشارة إليه، هو أن هذه النماذج الخمس (بوفر) ليست كل أنواع الإستراتيجية، وإنما هي أمثلة واقعية لأهم هذه الأنواع.

واختيار الإستراتيجية النموذجية عملية تتطلب دراسة منهجية لجميع العوامل العسكرية، الجغرافية الاقتصادية، النفسية، الحضارية، وبعد ذلك القيام بعملية تركيبه لتحديد الحل المناسب لبلوغ الهدف من الحرب.

الثالثة، وهي الحديث عن مفهوم جديد للإستراتيجية ظهر في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وكان نتاج تطور الوعي الإستراتيجي من جهة، وتعاظم آلة الدمار من جهة أخرى وهذا المفهوم يتمثل فيما يعرف باسم "الإستراتيجية العليا"، وهو على عكس كلمة "الإستراتيجية" التي ينحصر مداها في الحرب فقط، يتعدى هذا المدى إلى مرحلة السلم التي تعقب الحرب، ويعمل لتلافي كل ما يؤدي هذه المرحلة التي يجب أن تكون ثابتة وتضمن السلم والازدهار.

وهدفنا من إيراد هذه المسائل الثلاث هو، وضع ثورة التحرير في سياقها الإستراتيجي، وفي صورة التي أرادها  لها مخططيها وقادتها، حيث أن الجيش التحرير الذي انتهج منذ البدء أسلوب  المواجهة غير المباشرة وتبني الإستراتيجية طويلة الأمد بفعل المحدودية وسائله المادية  وطاقته البشرية..، هذا الجيش بقيادة جبهة التحرير الوطني، وقف قبل انقضاء حولين عن بداية كفاحه المسلح، لا لان يحدد فحسب المكانيزمات الفاعلة لتحقيق هدف الحرب، وإنما أعطى أيضا تصوره الأولي للمجتمع الجزائري في مرحلة ما بعد الحرب، وقد حددت وثيقة الصومام وإن كان ذلك بغير تحليل علمي معمق نظام الحكم في البلاد، وعلاقة الجزائر بالمجتمع الفرنسي، ووضعها الإقليمي في إطار المغرب العربي وفي الإطار القومي العام.

ولا أريد أن يفهم مما وردته، بأن الثورة الجزائرية خطط لها أناس من ذوي الاختصاص في الميدان الإستراتيجي، أو أن عمليات غرة نوفمبر قادها (ضباط) تخرجوا من كليات الفنون الحربية، لأن الثابت هو أن هذه الثورة اندلعت من غير تعليم مسبق. لمفجريها ورجالها في المدارس الحربية ولا في معاهد الدراسات الإستراتيجية...،غير أن هذا الوضع لا يسمح بحال من الأحوال التبجح بالقول على أن الثورة كانت عملا اعتباطيا، وأنها تفتقر لاستراتيجية واضحة المعالم محددة الوسائل والأهداف، لأن القراءة المتأنية ووقائع ثورة التحرير، تدل بما لا يدع مجالا للشك، على الشروع في تطبيق خطة إست راجية، موضوعها كفاح المستعمر، وهدفها تحرير البلاد، ووسائلها كل أدوات وأشكال الصراع، وقاعدة ارتكازها جماهير الشعب العريضة.

إستراتيجيتا " إجهاد" و"إفناء"  في حلبة ثورة التحرير

إن الدراسات الإستراتيجية، تقول بأن الصراع، أي صراع مسلح، لا يكون بين كتل جامدة، وإنما يجري بين كائنات حية ترد على الفعل العسكري، أو غير العسكري بفعل معاكس مثله أو أشد منه قوة وتأثيرا..،لذا فإن علماء الإستراتيجية يجمعون على أنه من الأولويات علم الإستراتيجية دراسة كيفية الوصول بالعدو إلى وضع نفسي وحالة ذهنية تجعلانه يقتنع بعدم جدوى الاشتباك أو مواصلته، وذلك بالاستخدام الجيد لمختلف وسائل القوة والتأثير المتوفرة...،وبعبارة أخرى فإن علماء الإستراتيجية يتفقون على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم على أن التفتيت المادي والمعنوي، هو هدف الخطة الإستراتيجية، لأن التفتيت بنوعيه يؤدي إلى ثني إرادة الخصم، وبالتالي إلى سهولة تحطيمه، ولقد كان هذا الهدف هو نفسه الذي توخته الخطط الإستراتيجية لكل من الجيش التحرير وجيش الاستعمار الفرنسي إبان الثورة، وحول هذا الهدف تمحورت خطط الخصمين واجتهادات الفريقين لإحداث التفتيت في الطرق الأخر حتى يسهل دحضه في الميدان...،وقد اعتمد الخصمان في ذلك شتى الوسائل العسكرية والدعائية والنفسية، وحاول كل طرف الاستفادة القصوى من مزايا مجتمعه البشرية والحضارية والمعنوية والفنية لا لحاق الهزيمة بالطرف الأخر..،ويطول بنا المقام لو حاولنا تتبع هذه الخطط عند الجانبين في محيط ثورة نوفمبر 1954، لأن ذلك أكبر من أن تتسع له هذه الصفحات. ومع ذلك فإننا نحاول استجلاء ملامح هذه الخطط المتضادة في خطوطها العريضة حتى تكتمل الصورة.

 فثورة التحرير، كما هو معروف، اندلعت بزمر وجماعات صغيرة، تقول بعض التقديرات إنها لم تتعد 400 مجاهدا ساعة التفجير...،ومع ذلك فإن قيادة الأركان العامة ومخططي الحرب الفرنسيين فرضت عليهم إحداث غرة نوفمبر أخذ جميع الاحتياطات والتدابير اللازمة لمواجهة الموقف،وليس ذلك بسبب شدة هذه الأحداث وقوتها، بقدر ما كان السبب في تزامنا وشمولها لجل مناطق البلاد.

وكما هو واضح فإن ميزان القوى غداة اندلاع الثورة، كان مائة بالمائة لصالح جيش الاستعماري، سيما إذا عرفنا بأن العدد الضئيل للمجاهدين كان في أغلبه مسلم بقضبان من الحديد والحجارة وفي أحسن أحواله ببعض بنادق الصيد القديمة وبمواد التفجير صنعت محليا للمناسبة.

وإذا قادة الثورة في بداية الكفاح المسلح، لم يعبأ بعامل التفوق في القوى وفي الوسائل الثابت لدى الطرف الأخر إلا أنهم من جهة أخرى وضعوا نصب أعينهم هدفا أساسيا يتمثل في تحاشيهم الهزيمة العسكرية، لأن الهزيمة في مثل تلك الظروف قد تكون لها انعكاساتها السلبية العميقة على جميع الأصعدة، ومن اجل تحقيق هذا الهدف التكتيكي والإستراتيجي في أن، كان تقديرهم للموقف القتالي انطلاقا من هذه المعطيات :

·        إزاء عدم جدوى المواجهة المباشرة مع العدو، أصبح الحل يتمثل في استنزاف قدراته المادية والمعنوية في زعزعة توازنه الاجتماعي والنفسي، ثم الاقتراب منه في الاتجاهات لا يتوقعها، وضرب مؤسساته الاقتصادية والإدارية، وتحطيم المنشآت مواطنه إتلاف ممتلكاتهم.

·        عدم الاستسلام لظروف التاريخ التي حرمت المجتمع الجزائري من أسباب التصنيع والتقديم العلمي، وبالتالي من الوسائل المادية اللازمة للنضال الثوري، وهو ما أدى إلى استنفار كل القوى الوطنية ووسائلها المتاحة لمجابهة الموقف وإلى اعتماد أسلوب حرب العصابات في القتال،وهذا عن طريق المقاومة الشعبية المتواصلة، وانتهاج أساليب الخداع والقتال الليلي ونصب الكمائن  و...و...

·         الاستفادة من جغرافية البلاد لتحقيق سلامة الجند وتوفير مجال حرية الحركة، وقد كان التركيز على المعالم التضاريسية التي لا تسمح بالانتشار السريع للقوات الحديثة مثل القوات الفرنسية، فوق الاختيار منذ البداية على " الأوراس" كعاصمة للثورة لما يوفره من فرص الاحتماء والتمويه والاختفاء، وأيضا لما يقدمه من حماية طبيعية ضد تأثير مختلف الأسلحة.

وعلى أساس هذه العوامل، بنيت في البدء إستراتيجية جيش التحرير الوطني المعروفة باسم "الإستراتيجية غير المباشر" أو " إستراتيجية إجهاد" التي راهن  عليها المجاهدون الأوائل لمواجهة " إستراتيجية إفناء" أو "إستراتيجية المباشرة" التي هي في الحقيقة الخيار العسكري الوحيد لجيش الاستعمار الفرنسي في محاولته تحطيم إرادة المقاومة الوطنية الجزائرية. وهذا ما جدا بقيادة ثورة  التحرير إلى بذل المزيد من الجهد لإعطاء الثورة مضمونها الشعبي  الذي دعا له بيان أول نوفمبر، والذي يعد من أهم عوامل الإستراتيجيات غير المباشرة.

أما عن الجانب الأخر، فإن إدارة الاستعمار، وأن روعتها أحداث غرة نوفمبر، إلا أنها لم تضع في حسبانها أن هذه الأحداث هي بداية لثورة عاصفة تفرض عليها في مقبل الأيام حوارا قاسيا ومريرا في المعترك الصراع. ومع ذلك فإنها لم تدع الحدث يمر هكذا دون إجراءات أمنية مشددة، وقد حاولت بجميع وسائلها العسكرية الأمنية والإعلامية محاصرة النتائج المترتبة عن الحدث وتفكيك الفريق الذي كان وراءه، غير أن الأحداث التي تلت عمليات أول نوفمبر جعلت المستعمر يدرك حقيقة وأبعاد الزلزال الأعظم التي كانت أحداث غرة نوفمبر بدايته. وقد عمل في التوصل على اتخاذ التدابير اللازمة لمنع حدوث هذا الزلزال، حيث تم الإعلان عن حالة الطوارئ وفرضت حالة الحصار على البلاد، وشرع في تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية عن كل نشاط ثوري ضد القوات الفرنسية ومصالح الفرنسيين، كما تم تنفيذ سياسة تجميع وحشد سكان الريف الجزائري ضمن محتشدات حتى تسهل مراقبته...،وأكثر من ذلك فقد بدأ التفكير لإعداد حملة واسعة النطاق لمحاصرة منطقة الأوراس (عاصمة الثورة) لجسم المعركة في الميدان.

وبعبارة أخرى فإن الأجداث الأولى لثورة التحرير، قد فرضت على قيادة الجيش الاستعماري وضع عدة خطط تكتيكية لتحقيق هدفها الإستراتيجي، ولم  تكن هذه الخطط عسكرية فقط، وإنما هناك أيضا خطط إعلامية وخطة سياسية لبلوغ هدف الحرب، حيث عملت أجهزة الإعلام والدعاية كل ما في وسعها لتضليل الرأي العام الداخلي والخارجي عن معرفة المقاصد الحقيقية لثورة التحرير، وتصويرها له على أنها أعمال تخريب وإجرام لقطاع الطرق والمجرمين.

كما أنه بالإضافة إلى عمليات الإبادة وتطبيق الأحكام العرفية لعزل الثورة عن محيطها الشعبي، فقد جرت أكثر من محاولة لتفجير جهاز الثورة من الداخل وفي هذا الإطار عمد(سوستيل) مثلا فور توليه مسؤولية الولاية العامة في عام1955 إلى تسليح بعض الجزائريين في بعض مناطق البلاد، وكانت خطته في ذلك تقتضي أن يمثل هؤلاء دور المؤيد للثورة والمشارك فيها حتى إذا ما سمحت الفرصة، وإلى حين إصدار الأوامر للأنقاض على جيش التحرير، غير أن العناصر المختارة لأداء هذه المهمة كانت من مناضلي جبهة التحرير الوطني، وقد استمرت في تمثيل هذه المسرحية إلى أن أتيحت لها الفرصة غداة انعقاد  مؤتمر الصومام فانضمت إلى صفوف جيش التحرير الوطني.

وباختصار، فإن قادة الجيش الفرنسي في أحداث أول نوفمبر حاولوا بكل ما أوتوا من قوة مادية ومعنوية وسياسية، تحقيق هدف الحرب،  كما جندوا إمكانيات عسكرية ضخمة لاكتساح منطقة الأوراس باعتبارها رأس الحرية في العمل الثوري في الجزائر، وعلى أساس أن سقوط الأوراس يعني موت الثورة المحتوم.

أحداث 20 أوت 55 تغير الحساب الإستراتيجي

الجيش الفرنسي الذي نفذ عملية حصار "الأوراس" للقيام بعمل عسكري يكون حاسما ويحقق الهدف الإستراتيجي للحرب ضد الثورة الجزائرية وتفنن جنده في التنكيل بالأهالي وفي تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية في إطار المحتشدات  والتجمعات السكانية بالمدن، حتى يقطع كل أواصر الجيش التحرير بقاعدته الشعبية...،وقد عانت الثورة وفق هذه الخطة المحكمة والقاسية الكثير من المصاعب، لو لا طابعها الشعبي الشمولي لا نقضي أمرها وهي دون عامها الأول، غير أن هذا العمق الذي حرصت عليه قيادة الثورة منذ الانطلاقة الأولي، كان من أهم العوامل التي فكت الحصار على المنطقة، وجعلت الهدف الإستراتيجي المزمع إنجازه في هذه العملية، سرابا يبعد عن كل خطوة في اتجاهه عدة خطوات...

لقد تجسدت إحدى روائع تلاحم الشعب مع جيش التحرير، في التضحية الشعبية اللامشروطة لمؤازرة سكان المنطقة هذا الجيش في ظروفه العصيب 

وإمداده بالمؤن وبالمعلومات عن العدو، وأيضا فيما كان يجري بالشمال القسنطيني من تحضير وإعداد لخطة هجومية تكتيكية تجبر العدو على قواه لتخفيف العبء على الأوراس المحاصر...،وقد تظافر هذان العاملان إلى عامل إستماته جيش التحرير، لتخرج الثورة من هذا الامتحان القاسي أكثر تصميما على مواصلة درب الكفاح.

هجومات الشمال القسنطيني عشية 20 أوت 1955  استهدفت كل ما يشكل أداة القمع من الجيش، درك، شرطة، قضاء...،وأيضا كل ما يشكل دواعي وجود المستعمر ومؤسسات وممتلكات وذلك في كامل منطقة الشمال القسنطيني.

ونستطيع القول بأن هذه العملية التي أعدها وقادها الشهيد زيغود يوسف، قد أعطت النتائج العسكرية المرجوة منها على الرغم من ضخامة الخسائر في الأرواح(700 شهيدا)،حيث اضطرت إدارة الاستعمار إلى أن تسقط من حسابها الإستراتيجي الكثير من المعطيات، وتضيف لها أخرى أكثر تعقيدا لمواجهة ثورة ليس موطنها(الأوراس) فحسب، وإنما كل التراب الوطني، وليس جيشا هو جيش التحرير فقط، وإنما كل الشعب الجزائري.

ووفق هذه القناعة الجديدة تشعبت مهمات الجيش الفرنسي وتعقدت أدواره فأضحى في حاجة إلى إسناد إضافي وإلى طرق جديدة لمواجهة الموقف وحسم الصراع، ولا نتكلم هنا عن الإمدادات الضخمة التي تم إرسالها من باريس إلى الجزائر لإنقاذ (الشرف الفرنسي)،ولا عن أساليب الإبادة وانتهاج سياسة الأرض المحروقة للسيطرة على الوضع، ولاعن الحرب الإعلامية والسياسية التي مارستها السلطات الفرنسية في تعاملها مع الحرب الثورية في الجزائر...،وإنما نشير إلى الحرب النفسية التي أولاها المستعمر عنايته بهدف أحداث التفتيت الداخلي في صفوف الثورة، ولقد خص لهذا النمط من الحرب جيشا جرارا بلغ تعداده عام1959 حوالي 27073 ما بين ضابط وجندي، وقد مارس هذا الجيش الضخم كل أنواع العمل النفسي لتحييد الثورة عن مسارها أو تفجيرها من الداخل، ونذكر من أنواع هذه الحرب كلا من العمل الداعم، والدعاية الموجهة ضد تشكيلات جيش التحرير.

فالعمل الداعم، هو لون من ألوان الحرب النفسية يستهدف المدنيين في مناطق العمليات العسكرية، وذلك طبقا لسياسة التجميع وإقامة المحتشدات لسكان الأرياف التي بدأت سلطات الاستعمار تطبيقها منذ بداية عام 1955، وقد أصبح الريف الجزائري وفق هذه السياسة عبارة عن مجموعة كبيرة من المحتشدات الواقعة تحت حكم الإدارة العسكرية لجيش الاستعمار، وتخضع لأحكام حالة الطوارئ وقانون المسؤولية الجماعية، ومنطق(فرق تسد)،  (جوع تطاع) و.. و...

أما النوع الثاني من الحرب النفسية، فهو الدعاية الموجهة ضد تشكيلات جيش التحرير بغرض عزل المجاهدين عن محيطها الشعبي، وإقناعهم بعدم جدوى مواصلة الكفاح المسلح، وبأن آمال الثورة هو النهاية المحتومة...،وقد استعملت إدارة الاستعمار في ذلك شتى الوسائل للتأثير على العمل الثوري الذي يزداد شدة يوما، كإثارة النعرات وإلصاق والتهم بقيادة الثورة، وتلفيق أخبار المعارك و...و...

ومن جهتها فإن الثورة بعد أحداث الشمال القسنطيني كان لزاما عليها أن تطور إجراءاتها التكتيكية بحسب المسجدات والظروف المفروضة، وأن تجد الحلول المناسبة لمختلف المشاكل والنواقص العالقة بالتنظيم والتأطير والتسليح وأن تواجه أيضا كل أشكال السلاح التي شهرها المستعمر في وجهها من دعاية وتضليل للرأيين العالمي والفرنسي...،وبعبارة أخرى فإن قوة رد الفعل المعادي ونوعه بعد أحداث الشمال القسنطيني، أوجد الحاجة لدراسة الموقف القتالي، وإيجاد صيغ جديدة من العمل والتنظيم والتأطير تتلاءم ومقتضيات التصدي الفعال للخطط المعادية التي تستهدف بأشكالها المتعددة إجهاض العمل الثوري لجبهة التحرير الوطني.

وهكذا نستطيع القول بأن أحداث 20 أوت1955 كانت مدعاة لتغيير عميق في الحساب الإستراتيجي لكلا الطرفيين المتنازعين، ففي الوقت الذي عمدت فيه القوات الفرنسية إلى إبعاد كل السبل المشروعة وغير المشروعة لتشديد قبضها على المجتمع الجزائري كانت قناعة قيادة ثورة التحرير بضرورة إعادة هيكلة الثورة وعلى النحو الذي يضمن تكريس جميع طاقاتها الشعب الجزائري لصالح العمل المسلح لبلوغ الهدف الإستراتيجي للحرب التحريرية.

مؤتمر الصومام وبداية العد العسكري:

وقفة الصومام التاريخية في أوت 1956، كانت ببساطة لقاء بين قيادة الكفاح المسلح لدراسة الموقف القتالي وإيجاد خطة استراتيجية تكون في مستوى مواجهة الخطة المعادية التي أبدع في صنعها منظورا الاستراتيجية الفرنسيين، وأوكل أمر تنفيذها لجنرالات غلاظ شداد، ووفرت لنجتحها الشروط المادية والتكنولوجية ووسائل الحرب.

وما تجدر الإشارة إليه، هو أن قبل مؤتمر الصومام، لم تكن هناك قيادة عكسية عليها تشرف على التنسيق بين العمليات العسكرية  في المناطق بمساعدة  أعوانه يجتهد إعتمادا على خبرته الشخصية لمواجهة المخاطر والصعاب، وغالبا ما كان ذلك بأفواج قليلة العدد من المجاهدين يسهل تموينها وإعدادها و تحركها، وتستطيع مفاجأة العدو وإخلاء مكان المعركة في الوقت المناسب، وتنفيذ العمليات في الزمن وفي المكان الملائمين للإنتصار ...،غير أنه بتطور الأحداث وبتطور وسائل الحربية الفرنسية وخططها التكتيتكية، أصبح لزاما على قيادة الثورة أن تلتقي لتقيم الماضي والتحخطيط للمستقبل بأقامة وتنظيم حالمؤسسات السياسية والعسكرية لجبهة وجيش التحرير الوطني الموكول لها مهمة إنجاز الهدف الإستراتيجي للحرب.

وهكذا، فبعد هذا اللقاء خرج المؤتمرون بقرارات غيرت بعمق مجري الأحداث، وقد أدى تطبيقها الصارم إلى بداية العد العكسي بين الإستراتيجيتين، ففي حين أخذت إستراتيجية جيش الاستعمار تتراجع تدريجيا، كانت إستراتيجية جيش التحرير تشق طريقها بكل حزم لأن تغدو سيدة الميدان.

ومن هذه القرارات، المصادقة على :

- الوثيقة السياسية للثورة التحريرية، وهي قاعدة أيديولوجية تحدد منهجية الثورة المسلحة لجميع الميادين، كما تحدد أفاق مستقبل الجزائر ما بعد الحرب .

-                                 إعادة تقسيم القطر الجزائري  إلى ست ولايات، في كل ولاية عدة مناطق ، وفي كل منطقة عدة نواحي، وفي كل ناحية عدة أقسام، وفي كل قسم عدة فروع.

-                                 تنظيم الجيش تنظيما عصريا برتبه العسكرية وتشطيلاته الحربية ومصالحه الفنية كالتموين والقضاء والاستخبار والصحة .

-                                 تعيين قيادة عامة وموحدة للثورة المسلحة بتكوين المجلس الوطني للثورة المتكون من 34 عضوا(ما بين أساسي و إضافي)،ثم تعيين لجنة التنسيق التنفيذ متكونة من خمسة أعضاء، والتي هي مسؤولة أمام المجلس الوطني للثورة باعتباره السلطة العليا في هرم ثورة التحرير .

وكما هو واضح فإن المؤتمر الوطني للثورة هو الهيئة الدستورية العليا لجبهة التحرير الوطني وهو يحدد المذهب والسياسة العامة للجبهة ويتمتع بكل السلطات الخاصة لإصدار القرارات ومراقبة منظمات جبهة التحرير الوطني.

والمجلس الوطني للثورة المنبثق عن المؤتمر والمسؤول أمامه، يعد الهيئة العليا للجبهة في الفترات الواقعة بين دورات المؤتمر، وله صلاحية  تكوين وتعيين لجان التأديب أو المراقبة الإدارية والمالية، وأي لجنة أخرى للتحقيق .

والمجلس الوطني تنبثق عنه لجنة التنسيق والتنفيذ التي تسهر على التنسيق بين أجهزة جبهة التحرير الوطني، وتعمل على تموين الجيش الوطني الشعبي بالأسلحة والذخيرة والرجال ، وهي مطالبة بتقديم تقرير عن نشاطها العسكري السياسي أثناء اجتماع  لمجلس الوطني للثورة.

        كما سهرت القيادة الثورية على إقامة مختلف أجهزة جبهة وجيش التحرير الوطني السياسي والعسكرية وتطويرها لتتلاءم مع تطور الكفاح الوطني على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن هذه الأجهزة من القاعدة إلى القمة نذكر:

المجالس الشعبية، القسم الناحية، المنطقة، الولاية وأخيرا القيادة العامة للثورة.

        فالمجلس، أو اللجان الشعبية تتكون من المناضلين الدائمين في جبهة التحرير الوطني في الحي أو الدشرة أو القرية أو المدينة... ويقوم العمل في هذه المجالس على مبدأ القيادة الجماعية التي لا ترضى باستئثار فرد واحد بالسلطة لتفادي الانحراف والخطيئة، وعليها فإن المجلس يتكون من الرئيس ومن أربع مسؤولين عن والمالية، والتموين، والأخبار والدعاية، والأمن والعدالة. وبعد المجالس الشعبية يأتي القسم، وقائده من أعضاء جيش التحرير الوطني برتبة مساعد وهو يجمع التوازي بين السلطة السياسي، والإدارية والسلطة العسكرية ومن أجل ذلك كان له نائبان، أحدهما سياسي والآخر عسكري، علاوة على نائب للأخبار والاتصال.

        وهكذا نجد أن القسم هو قاعدة  النظام العسكري بينما المجالس  الشعبية هي قاعدة النظام اللسياسي. والقسم ينقسم إلى عدة فروع تزيد أو تنقص بحسب اتساع رقعة القسم وعدد السكان به والظروف التي يعيشها، كما ينقسم في التنظيم على أعراش وكل عرش إلى (دواوير) وكل دوار إلى (فرقة) وكل فرقة إلى (دشرة)، وعلى كل دشرة لجنة ثلاثية قائدها مدني من المناضلين الأكفاء الملتزمين، تتبعه عدة فصائل مكونة من عدة خلايا.

        بعد القسم تاتي الناحية وتضم عدة أقسام يزيد عددها أو ينقص بحسبل اتساع الناحية وكثافتها السكانية. تدار الناحية بواسطة مجلس يتكون من رئيس الناحية برتبة ملازم ثاني يجمع بين السلطتين السياسية والعسكريةن ويساعده ثلاث نواب برتبة ملازم للشؤون السياسية، والعسكرية، ثم الاتصال والأخبار ولرئيس الناحية كل الصلاحيات لإصدار القرارات والأوامر على مستوى ناحية بعد اطلاع قلائد المنطقة.

        وتأتي بعد الناحية المنطقة، وهي تضم عددا من النواحي يتسع عددها أو يضيق تبعا لعدد المناطق بالولاية او عدد السكان بها. ويجمع قائد المنطقة وهو برتبة ضابط ثاني بين السلطتين السياسية والعسكرية وله نواب ثلاثة هو النائب السياسي (المحافظ السياسي)، النائب العسكري، النائب للأخبار والاتصال ولكل واحد مهام خاصة به.

        وبعد المنطقة تأتي الولاية، وقائدها برتبة صاغ ثاني، ونوابه الثلاثة برتبة صاغ أول، ويتولى أمر تسيير الولاية مجلس يضم قائد الولاية ونوابه ورؤساء المناطق وأحيانا النواحي، ويعر باسم (المجلس الموسع للولاية)، وفيه تتخذ القرارات الهامة، وقائد الولاية يجمع بين السلطتين السياسية والعسكرية وهو بحكم وظيفته عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وله الحق في اقتراح أو تعيين الأفراد في مسؤوليات قيادية بولايته.

        هذا وتجدر الإشارة إلى بعض المهام التي كان يقوم بها نواب قائد الولاية في حدود اختصاص كل واحد منهم، وهم: النائب السياسي، النائب العسكري، نائب الأخبار والاتصال.

        فالنائب السياسي من مهامه الإشراف على التنظيم السياسي لجبهة وجيش التحرير الوطني في المدن والأرياف التي تضمها الولاية، ويوصل صوت الثورة إلى كل مكان فيها، ويعمل على تكوين خلايا جبهة التحرير الوطني داخل كل مؤسسة أو منظمة، ويزود جيش التحرير بالرجال اللائقين، وينظم وحدات الفدائيين ويشرف على التربية السياسية والدينية، ويقوم بالدعاية المضادة بدعاية العدو كما يقم بتنظيم الإدارة المدنية ويرعى الأحوال الشخصية للمواطنين، ويشرف على جمع أملاك من هبات واشتراكيات وضرائب وغرامات، ويسهر على الشؤون الاجتماعية لضحايا الكفاح المسلح.

        والنائب العسكري لقائد الولاية يشرف على الوحدات العسكرية وكل ما يتعلق بالأمور العسكرية، فهو يدرس ميادين القتال ويقرر العمليات العسكرية ويوزعها على الوحدات لتنفيذها في المكان والزمان المحددين، ويتولى الإشراف على مراكز التدريب لإعداد وحدات القتال عسكريا، كما يتولى أمور تفقد السلاح في الوحدات العسكرية.

        أما النائب الثالث، فيقوم بتنظيم شبكات الاتصال بين المدن والأرياف في ولايته، ويربط بينهما وبين سائر التراب الوطني ومراكز القيادية للثورة، ويسهر على كشف أماكن تجمعات العدو ومراكز قياداته ونقاط مراقبته وخطة تحركاته.

        ومع هذه الهيكلة الجديدة لمجتمع الحرب في الجزائر، أصبح تشكيل وحدات جيش التحرير الوطني، كالآتي :

-                                 الفوج : ويتكومن من (11 )مجاهدا ، وجنديين أولين، وعريف وقائد الفوج يتسلح جميعهم بأسلحة خفيفة تعينهم على إنجاز العمليات العسكرية الخاطفة ضد العدو ومنشآته. وكان نظام الفوج الفدائي بالمدن والقرى.

-                                 الفصيلة أو الفرقة: وتضم (35) مجاهدا، أي  ثلاثة أفواج يختص فوج منها بالاستطلاع، والثاني يحمل الأسلحة الخفيفة، والثالث يحمل الأسلحة الثقيلة،  ويساعد قائد الفصيلة نائبان أحدهما يعرف بـ (المحافظ السياسي) الذي من مهامه جميع الأمور السياسية والاجتماعية والثقافية والصحية والإعلامية والدعائية والتوجيهية والثاني هو المساعد العسكري.

-                           &nbs

Voir les commentaires

كيف طبق الاستعمارالحرب النفسية في الجزائر تابع

        وتطورت هذه المصلحة بفضل توفر أجهزة الراديو المتنقلة لتصبح موجودة حتى على مستوى القيالق بالإضافة إلى المحطات الأخرى الموجودة خارج الوطن في الدول عربية وإفريقية، وابتداء من هذا التاريخ (1958) أصبحت هذه المصلحة تعمل بدون هوادة تغطي في نشاطها كامل التراب الوطني وعلى اتصال بالمحطات المختلفة خارج الوطن ويدير هذه الشبكة إطارات جزائرية مختصة وبوسائل وإمكانيات تابعة لجيش التحرير الوطني، وقد برهن هؤلاء المجاهدون أكثر من مرة على تلقين العدو ودروسا بليغة في فنون حرب الأمواج المعاصرة، التي كرس لها العدو رجالا تخرجوا من الأكاديمية والمعاهد العسكرية العليا وجهزهم بوسائل وعتاد متطور جدا واستعمل كل الحيل والخداع التي توصل لها خبراء الحلف الأطلسي في ذلك الوقت. لكن عبقرية المجاهد وإيمانه العميق وحبه واخلاصه لشعبه وبلاده جعله يتفوق على دهاء المستعمر،  فوضعوا أنماطا من الشيفرة عجز العدو ومن ورائه الحلف الأطلسي.

        وبعد هذه المرحلة بدأ التفكير في تكوين تقنيين كختصين في تصليح هذه الأجهزة  الموجودة بحوزة جيش التحرير، بعد أن سجلت أعطال  كثيرة على مستوى  كل محطة، وكانت الدفعة الأولى، مكونة من مجاهدين فقط هما (... غربي محمد المدعو بوب، وملوك محمد المدعو صبري)  وقد تم تكوينهم بالمدرسة الغربية لجيش التحرير لمصلحة المواصلات وكونهم السيد صدار سنوسي ثم توالت دفعات أخرى من التقنين لإصلاح وتصليح أجهزة الراديو السلكية واللاسلكية، والتي كانت تحتاج إلى مستوى وتدريب أكثر تركيزا ومؤهلات علمية عالية في ذلك الميدان.

        أما عن ردود  الفعل الاستعمارية فقد سجلت محاولات عديد ومستمرة للعثور على مصدر هذه الأجهزة وأفرادها والأماكن التي تكون فيه هؤلاء الفنيون مما حدا بالجنرال الفرنسي "كريبة"  إلى القول وبالحرف الواحد : "إذ وجد تم كتيبة مشاة وكتيبة إشارة فاتركوا الأولى واقضوا على الثانية" وقد حاول الاستعمار تجسيد هذا الكلام أكثر من مرة، وتمكن في بعض الحالات من بلوغ هدفه أي أسر بعض الإطارات رفقة أجهزة لكن ذلك لم يؤثر على عمل هذه المصلحة لأنها كانت منتشرة في كل مكان كما أن قادتها كانوا محنكين يعرفون جيدا تحركات العدو فيختفون في الوقت المناسب. وكان أول سجين من هذه المصلحة هو السيد نعاس الحبيب المدعو حمزة، على إثر كمين نصب له ولجماعته في المنطقة السادسة بالولاية الخامسة. وقد لجأ العدو مرارا إلى تعقب موجات الإشارة لإلقاء القبض على رموز الثورة انطلاقا من تعقب مصلحة المواصلات ولكنه لم يفلح ومن ذلك ما وقع في الولاية الثالثة حينما عجز عن كشف مقر قيادة هذه الولاية بقيادة الشهيد عميروش، مما دفع بمجموعة من رجال القوات الخاصة الفرنسية إلى تمشيط منطقة جبلية بهذه الولاية لمدة أيام لكن بدون جدوى.

        ومما تذكر به المناسبة أن تلك القوات الخاصة حينما غادرت المكان تركت ضمن بقايا العلب والقارورات المرمية بطاريات صغيرة تستعمل في أجهزة الراديو اللاسلكية، ولما وقعت تلك البطاريات في يد المجاهد حملوها إلى مصلحة الإشارة لاستعمالها من قبل رجال المواصلات السلكية واللاسلكية، ولما حاول هؤلاء تجربتها انفجرت وذهب ضحيتها ثلاثة  مجاهدين من نفس المصلحة وهم الشهداء "آيت حمي الطيب العجاج المدعو لحبيب وسعيدي عبد الله".

        وفي نهاية عام 1958 أصبح لمصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية قيادة مركزية تديرها جماعة من ذوي الخبرة الواسعة في هذا الميدان بإشراف السيد تليجي على المدعو عمار، وهو المسؤول الأول إلى جانب بوزيد عبد القادر، حساني عبد الكريم، لغواطي عبد الرحمن، صدار سنوسي، بلقاسمي علي، كما كانت توجد قيادة على مستوى القاعدة الشرقية وأخرى على مستوى القاعدة الغربية.الأولى يرأسها حجاج مصطفى والثانية بن ميلود نور الدين.

        ابتداء من عام 1961 شرعت المصلحة في تكوين الضباط خارج الوطن من أجل الحصول على شهادات عليا في مجال الاتصال السلكي واللاسلكي، وكانت أول دفعة متكونة من ضباط توجهت إلى روسيا من اجل  الحصول على شهادة مهندس في هذا التخصص ضمت الطلبة، الضباط (حجاج، بغدادي، حكيكي، بن برنو، قرموش)، مدة التكوين كانت خمس سنوات.

        إن لمصلحة المواصلات  السلكية واللاسلكية سجلا من البطولات والمفاخر التي يعتز بها كل جزائري، فهذه المصلحة التي انطلقت من لا شيء استطاعت وفي مدة وجيزة أن تكون أثناء الثورة 19 دفعة من الإطارات وهو ما يعادل 600 ضابط وإطار في مجال المواصلات السلكية واللاسلكية وتحدث شفيرة جزائرية مائة بالمائة دون الاستعانة بأي أجنبي كما أنشأت مدارس على الحدود لبشرقية والغربية وإذاعة ومحطات في عدد من الدول العربية والإفريقية كما كونت إطارات في هذا التخصص.

        أما في المجال العملياتي (الحربي)   فقد  تمكن هؤلاء الضباط من تغليط قوات العدو أكثر من مرة، دخلوا في شبكاته وأعطوا معلومات خاطئة للطيران الفرنسي الذي ضرب مواقعه ودمرها أحيانا أخرى مثل ما حدث في معركة "الزانة" أين تمكن أحد الضباط العاملين على جهاز الراديو من الدخول في شبكة العدو وأعطى معلومات خاطئة للطيارين وبالتالي تحول قصف الطائرات من جبهة المجاهدين إلى جبهة العدو، بعدما أكد الضابط للطيار أن المجاهدين يحملون الخوذة فوق رؤوسهم للتمويه. فكانت ضربات الطيران موجعة لقوات المشاة الفرنسية، وهناك أعمال كثيرة أخرى موجعة من هذا النوع، لكن في المقابل قم هؤلاء المجاهدون أعز ما لديهم من الرفقاء في الجهاد قارب عددهم المائة ضابط.

Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار/كيف طبق الاستعمار الحرب النفسية في الجز

كيف طبق الاستعمار الحرب النفسية في الجزائر؟

       

الحرب النفسية أثناء حرب التحرير، هي تلك السياسة الشاملة، اقتصادية، سياسية إيديولوجية وعسكرية التي حاول الاستعمار أن يواجه بها، حركة التحرر الوطنية. لقد كان الهدف الأساسي للحرب الشاملة، بقاء الاستعمار وكانت كل الوسائل مجندة لتحقيق هذا الهدف، وجربت كلها: من المكتب الخامس والحركة... إلى القتل الجماعي، والإبادة الكلية. إذن هذه هي الحرب النفسية التي عرفها الشعب الجزائري خلال هذه الفترة:

بعد سنة واحدة فقط من اندلاع الثورة بدأ تعداد الجيش يرتفع بسرعة إذ استجيب لطلب الجنرالات لرفع تعداد الجيش، وبلغت هذه الزيادة سنة 1956، حسب تقدير المجاهد (شهر ماي 1956) 250 ألف عسكري وهو ما لا تعترف به المصادر الرسمية الفرنسية، ويقدر نفس المصدر القوات الفرنسية، ويقدر نفس المصدر القوات الفرنسية العاملة في الجزائر في تلك الفترة ب 500 ألف عسكري في مختلف الأسلحة. وإذا أضفنا لهذا العدد عدد الحركة والقومية، والمخزن والرصاص. فان تعداد القوات يصبح ما بين 735 ألف-800 ألف فرد ويمكن أن نقول أن الجيش كان في أعلى نسبته العددية في هذه السنة. إذ وصل عدد الضباط المؤطرين إلى 60 جنرالا، ومن 600 إلى 700 عقيد ومقدم، ومن 1300 الى 1500 رائد.

كل هذه الأعداد لا تجد معناها إلا بالمقارنة مع قيادة وقوات جيش التحرير الوطني مقسما إلى ست ولايات ويبلغ عدد رواده 18 رائد فقط، وكان من الصعب على الولايات الداخلية أن تحافظ على أفراد جيش التحرير تكونوا في الميدان، بينما في المقابل لهم قوة يتخرج أفرادها من المدارس والمعاهد العسكرية المشهورة والمعروفة. من هنا نستشف أن أول خطوة في السياسة الفرنسية كانت البحث عن الحسم العسكري، وبالتالي استعمال القوة ضد الجزائريين للتأثير على عقولهم وسلب إرادتهم ومنعهم من الحصول على مطلبهم المتمثل في الاستقلال الوطني.

وبالإضافة إلى أفراد الجيش الفرنسي، فإن المستعمرين  عملوا على إيجاد قوات محلية تعمل لصالحهم وتقوم بمهام لصالح الإستراتيجية الكولونيالية، وتكلف بهذا العمل أخصائيو النشاط النفسي، وتمكنوا عن طريق التعذيب، أو عن طريق القيام بأعمال قذرة، من أن يكسبوا لصالحهم بعض الأفراد من (الأهالي) الذين كونوا بهم جيوشا مضادة لجيش التحرير الوطني (لضرب العرب بالعرب) حسب نظريات جنرالات الحرب النفسية.


حرب الموجات الصوتي بين جيش التحرير الوطني

 والاستعمار الفرنسي

 

تعود فكرة إنشاء مصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية  إبان الثورة التحريرية إلى تلك المحاولات الأولى التي سجلت قبل بداية الثورة أيام إنشاء المنظمة السرية وهذا لاقتناع أعضاء المنظمة بضرورة استعمال  أجهزة راديوسلكية ولا سلكية لتعقب العدو في كل تحركاته واكتشافه قبل أن يدرك الثور، والقيام بعمليات التنصت لمعرفة أكبر عدد ممكن في المعلومات عن العدو وعن المحيط الذي يتحرك فيه وحتى يتسنى ضربه بفعالية أكثر وبطريقة مبنية على أساس تخطيط محسوب ومدروس، وقد قيمت المنظمة السرية مسيرة كل الثورات الشعبية والحروب ابتداء من عام 1930 إلى غاية 1947 فأرجعت سبب فشلها إلى كونها لم تكن ثورات شاملة ولا تتوفر على وسائل الحرب الحديثة وعليه أدركت ضرورة إدخال جملة من الوسائل والأسلحة المتطورة وكانت أجهزة الإشارة في صدارة هذه الوسائل.

وقد أعطي الضوء  الأخضر للبحث عن هذه الوسائل والأجهزة بأي ثمن كان ابتداء من مؤتمر زدين بضواحي العطاف وهذا في ديسمبر 1948، ففي هذه المؤتمر طالب المؤتمرون بشراء أجهزة راديو لا سلكية من القوات الأمريكية المرابطة بالجزائر والتي كان مقر قيادة أركانها بفندق سان جورج (فندق الجزائر حاليا)، بالإضافة إلى شراء أسلحة أخرى.

لقد أسندت مهمة شراء الأسلحة وأجهزة الإرسال والاستقبال إلى السادة (رباح لخضر، بناي محمد، يوسفي محمد، آيت أحمد) وبعد أن تم شراء مجموعة من الأسلحة وأجهزة الراديوا اللاسلكية المختلفة نقلت إلى بيت السيد زرقاوي، ونشير هنا إلى أن الشهيد بلوزداد كان قد اشترى في نفس الفترة أسلحة من الحدود الجنوبية الشرقية للبلاد.

بعد تحويل تلك الأجهزة إلى بيتت صهر سويداني بوجمعة تم كشفها من طرف العدو وهكذا تم القضاء على هذه الفكرة في مهدها قبل أن تصل إلى المرحوم بوقارة وجماعته من الإخوان الذين كانوا ينتظرون وصولها لاستعمالها في جبال الوسط الجزائري.

عشية اندلاع ثورة التحرير المظفرة أصبحت الفكرة المتعلقة بتكوين مصلحة المواصلات  السلكية واللاسلكية قد نضجت أكثر، لكن الظروف الصعبة التي  رافقت بداية الثورة، حالت دون تمكين جيش التحرير من إنشاء هذه المصلحة التي كانت تحتاج إلى إطار متخصصين ووسائل من أجهزة  راديو وغيرها، ولكن رغم كل الصعاب بقيت الجهود منصبة ومستمرة، بل وبإلحاح اكثر على غاية مؤتمر الصومام اذي قرر بصفة نهائية الشروع في البحث عن أجهزة راديو سلكية ولاسلكية، أما الطرق التي سلكها المجاهدون لكسب هذه الأجهزة فهي عمليات الإغارة والكمائن التي كان يقوم بها المجاهدون إضافة إلى عمليات السطو على البيوت التي نصبها العدو بالغابات لحراساتها وإلى جانب هذا تم شراء كما أمكن من أجهزة الراديو السلكية واللاسلكية من القوات الأمريكية المرابطة في المغرب ودول أخرى. وهكذا وبعد مرور شهور قليلة وصلت أولى الأجهزة إلى جيش التحرير عن طريق المغرب اشترتها اللجنة المكلفة بتموين الثورة بالعتاد والأسلحة. والتي كان يرأسها في تلك الفترة المرحوم محمد بوضياف، وكانت الولاية الخامسة بقيادة الشهيد بن مهيدي وبوصوف والحاج عبد الله وهواري بومدين رحمهم الله، هي أولى الولايات التي وصلتها مثل هذه الأجهزة التي ساهمت في تشكيل النوات الأولى لمصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية لثورة التحرير في هذه المنطقة للنشر بعد سنة فقط عبر كامل التراب الوطني كما سنرى بعد قليل.

فقد وصلت الولاية الخامس ثلاثة أجهزة من نوع (SCR-284) وهي اجهزة إرسال واستقبال من صنع أمريكي، والجدير بالذكر أن دخول الأجهزة تزامن مع دخول أربعة متخصصين جزائريين يعملون على هذه الأجهزة وهم (بوغرارة يوسف، سدايرية علي، علي البسكري، بولحرايق) الثلاثة الأخيرون نالوا الشهادة وقد عرفت المصلحة تدعيما للأفراد ابتداء من ماي 1956 وهو التاريخ الذي أضرب فيه الطلبة الجزائريون، والتحق عدد كبير منهم بصفوف جيش التحرير، وكان ذلك فرصة سائحة لتجنيدهم وتكوينهم في مختلف الأسلحة خاصة منها التقنية التي تحتاج إلى قاعدة علمية.

هذا زيادة على التحاق جماعة اخرى من العارفين بميدان المواصلات السلكية واللاسلكية بعد فرارهم من الجيش الفرنسي والتحاقهم بصفوف الثورة وهم: (ديب بومدين المدعو عبد المؤمن، تليجي علي، دكار بوعلام، حساني عبد الكريم، صدر سنوسي، خروبي عبد القادر) وهؤلاء كانوا بمثابة الإطارات الأولى لمصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية بالناحية الغربية من الوطن (الولاية الخامسة)، وعلى أيديهم تخرجت الدفعات الأولى التي توزعت على كامل التراب الوطني بالإضافة إلى الدفعات التي تكونت فيما بعد الجهة الشرقية ابتداء من عام 1958.

لقد كانت مهمة مصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية ةفي بداية ظهورها تقتصر على عمليات التصنت وجمع المعلومات المتاحة عبر شبكات العدو وفي الثامن من أوت 1956 دشنت أول مدرسة على الحدود الغربية لتكوين إطارات المواصلات السلكية واللاسلكية، بعدما أصبح لدى جيش التحرير بعض من أجهزة الإرسال والاستقبال. وكانت أول دفعت باشرت تربصها بالمدرسة متكونة من 26 طالب. وتخرجت بعد 45 يوما من التكوين. وسميت هذه الدفعة باسم الشهيد "أحمد زبانا" وقد تلقت تكوينا تقنيا للعمل على أجهزة الراديو في عملية التصنت ثم توالت دفعات أخرى في الناحية الغربية دائما، وابتداء من أواخر عام 1957 أصبحت لجيش التحرير على الحدود الشرقية محطات ومصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية وهذا بعد وصول بعض من أجهزة الارسال والاستقبال والتحاق عاملين عليها بهذه القاعدة.

في أواخر عام 1956 تحصل جيش التحرير على 10 أجهزة من نوع (RCA/M) وهي أجهزة صممت خصيصا لبواخر الصيد، ونظرا لمردودها المحدود في الجيش أدخلت عليها تعديلات وأضيفت لها تقنيات أصبحت بموجبها أكثر فعالية على المناورة، ثم وزعت هذه الأجهزة على أماني مناطق تابعة للولاية الخامسة. 

  تبعد هذه المرحلة تم شراء ثلاثة أجهزة إرسال واستقبال نوع (ART/13) أمريكية الصنع، لكنها صممت لأغراض الطائرات العسكرية، والثورة حولتها لأغراض قوات المشاة واستعملتها كمحطات أرضية ثابتة بالقرب من مقر قيادة الولاية الخامسة وعلى الحدود الغربية، لتدعيم المحطات الأخرى لتشكل بالتالي شبكة اتصال هامة وقادرة على ربط جميع الوحدات القتالية لجيش التحرير بالقيادة العليا في الداخل والخارج، ومما زاد في نجاح هذه المحطات الأولى قلة مردوديتها هو غرور العدو واستصغاره لقدرات جيش التحرير، فلم يكن يتوقع أن جيش التحرير بإمكانه استعمال أجهزة استقبال سلكية ولاسلكية واستمر غروره إلى أن تكبل أكثر من مرة الخسائر المعتبرة في الأرواح والعتاد، مما جعله يعاود حسابه ويراجع الأطروحات التي كان قد وضعها من قبل.

بدأ العدو يبحث عن مراكز المحطات ويجند لها وسائل بشرية وتقنية هامة مثل طائرات مروحية ورجال المخابرات، ووسائل أخرى عسى أن يتوصل إلى أدنى المعلومات بكيفية تحصل جيش التحرير عن هذه الأجهزة ثم من يقوم باستغلالها وأين تدربوا؟

في أواخر عام 1957 وبداية 1958  وصلت مجموعة متن أجهزة الراديو اللاسلكية المتطورة من نوع (HAMARLUND-SP 600) لها من الخصائص الفنية ما يجعلها تحتل الصدارة في تلك الفترة وتضاهي أجهزة مصلحة الإشارة للعدو وابتداء من هذا التاريخ اصبح لدى جيش التحرير سلاح للإشارة بأتم معنى الكلمة، وقد لعبت هذه الأجهزة دورا رياديا أثناء الثورة، وللتذكير ان المرحوم زقار مسعود هو الذي قام بشراء هذه الأجهزة بالإضافة إلى جهازين آخرين للإرسال من نوع (ANGRC-38) قوتها 400 واط تشتغل بالبطاريات وهذان الجهازان هما اللذان فتحت بهما إذاعة الجزائر الحرة المكافحة صوت جبهة التحرير وجيش التحرير يخاطبكم من قلب الجزائر وهي الإذاعة التي بقيت تشتغل طيلة بقية سنوات الثورة، رغم أن العدو عمل كل ما في وسعه لتدميرها أكثر من مرة وقنبل مقرها ثلاث مرات باستمرار الأمر الذي صعب من ككشفها وأبطال عملها، وقد كانت تشتغل بثلاث لغت (عربية، أمازيغية، فرنسية). أما التقنيون العاملون عليها فهم إطارات جيش التحرير تابعين لمصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية.

في القاعدة الشرقية ابتداء من أفريل 1957 وصلت أول محطة لفائءدة مصلحة المواصلات السلكية واللاسليكة هناك، رفقة جماعة من الإطارات العاملين على هذه المحطة نذكر منهم (شكيري عبد العزيز، زرقان محمد الصالح، السعودي... وآخرون)    هؤلاء يعودون النواة الأولى لهذه المصلحة في الناحية الشرقية، وقد وصل هؤلاء المجاهدون رفقة جهازي المحطة إلى مقر القاعدة الشرقية قادمين إليها من مصر.

وأقيمت محطة "قارة" على الحدود الشرقية للتنسيق والاتصال الدائم بالقاعدة الغربية، الأمر الذي سيعطي للاستراتيجية العسكرية الشامل بعد آخر مكنها من تحقيق العديد من الأهداف.

وفي الوقت الذي بدأت مصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية تنتشر في القاعدة الشرقية كانت القاعدة الغربية قد أصبحت لها شبكة واسعة تغطي كل الولايات التاريخية التابعة لها وهذا بفضل الدفعات التي تخرجت من مدرسة التدريب والعدد الهائل من الأجهزة السلكية واللاسلكية بالإضافة إلى الإذاعة وخاصة بعد وصول جهاز الإرسال والاستقبال (ANGRC-9) الأكثر تطورا في ذلك الوقت سواء بالنسبة للأجهزة التي كانت بحوزة قوات المستعمر، إذ كان هذا الجهاز مستعملا بشكل واسع لدى قوات الحلف الأطلسي، ويعتبر جهازا عمليا لأنه صمم خصيصا لقوات المشاة، ويشتغل بالحركة لتوليد الكهرباء، ويمكن نقله بسهولة بواسطة ثلاثة أفراد، الأول يحمل الجهاز على الظهر والثاني يحمل المولد، والثالث الهوائيات وله مدى عملي هام يصل حتى 2000كم بطاقة تقدر بـ: 15 واط، وهو يعمل بالصوت والرموز المورس، وقد تمكنت قيادة الثورة الحصول على 50 جهاز من أوروبا، وبفضل هذا الجهاز تمكن المجاهدون بمصر من الاتصال بالقاعدة الغربية في الجزائر. وهذه خطوة حاسمة في تاريخ مصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية أثناء ثورة التحرير ونظرا لأهمية هذا الجهاز العظيم الذي قدمه لثورة التحرير فقد أطلق عليه المجاهدون اسم "المجاهد الأكبر".

مع مطلع عام 1958 أصبحت الولايات الست مجهزة على الأقل بجهازين وفنيين عاملين على هذه الأجهزة لأن تكون الإطارات لم يتوقف في القاعدة الغربية وفي هذا التاريخ كانت أربع دفعات قد تخرجت من القاعدة الغربية ودفعة  أولى تخرجت من القاعدة الشرقية التي أنشأت هي الأخرى مركز تدريب لإطارات المواصلات السلكية واللاسلكية في تلك السنة وهذا مخطط للمصلحة على مستوى القاعدة الغربية عام 1957، 1958، 1959 ونفس المخطط يوجد بالقاعدة الشرقية.

Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار /مباديءالحرب النفسية الكولونيالية/صالح

مبادئ الحرب النفسية الكولونيالية

 

انطلقت هذه المبادئ أولا من مفهومها للحرب الثورية، ويعتبر التقرير البرلماني المقدم إلى لجنة الدفاع الوطني (أفريل 1959) الذي يقول . "أن الحرب الثورية هي قبل كل شيء حرب نفسية، لأن هدفها ليس الاستيلاء على الأرض ولكن السيطرة على المعتقدات الخاصة للسكان ، وتعتمد في تحقيق هدفها على كل أنواع النشاطات المدنية والعسكرية" ويضيف التقرير: "أن نشاط الحرب النفسية يرتكز على نقطتين أساسيتين وبغيرهما لا يكون للعملية أي نجاح"

1-     إن الجزائر فرنسية ولا يمكن التخلي عنها أبدا.

2-     باستطاعتنا أن نحسم الوضع عسكريا لصالحنا.       

وبمعنى آخر إننا آخر إننا نريد أن يكون الحق والقوة من جهتنا ويضيف التقرير الميداني فيقول "في كل مرة حققنا فيها انتصارا عسكريا فإن السكان المحرومين من الخوف يأتون إلينا".

كما يضيف التقرير في تحليله للوضع العسكري. قائلا : إن الزمرة (جبهة التحرير الوطني)، والمنظمة السياسية الإدارية هما العنصران الرئيسيان للتمرد وتربطهما علاقة عضوية وبدون المنظمة "ج.ب.و" فإن الزمرة العسكرية مصيرها الاختناق، ودون الزمرة المسلحة فإن المنظمة "ج.ت.و" لا تستطيع أن تفرض نفسها على السكان.

وضمن هذا المنظور دائما يتعرض التقرير إلى الوضع الذي يعيشه السكان(الأهالي) ومنها حالات الضعف الإداري... وسنرى فيما بعد حالات الضعف الكولونيالية التي تكمن في المحتشدات والتجمعات... والتعذيب والقتل.

أما الرائد هوقار فيعتمد في وجهة نظره على ان السلاح النفسي هو وسيلة للرعب. "وأكثر  تأثير من السلاح النووي، وهو يتمثل في الدعية الشعبية والتهيج وغسل الدماغ" والمحاكمة الشعبية والتسميم بواسطة الإعجاب والنقد الذاتي... ويقول أيضا إن القاهرة  هي السبب الرئيسي للتمرد كما يرى (هوقار) ضرورة استعمال السكان الجزائريين لمواجهة المتمردين والقيام بعمليات ضدهم ليلا ونهارا بفضل المعلومات التي يتم الحصول عليها، "هكذا يتزعزع إحساسهم بالأمن لأن معنوياتهم ضعيفة، فالمحاصرة الاقتصادية تقلق المتمردين ويجب أن نضيف لها المناطق  المحرمة " ويقدم شروط النجاح في ثلاث نقاط هي:

1-     القضاء على وحدات العدو

2-     تحطيم المنظمة السياسية العسكرية

3-     ربح المعركة النفسية للسكان

أما المجلة العسكرية رقم 281 لشهر مارس وفيفري، والتي يكتب فيها عدد من العسكريين المتخصصين، فقد كتبت تقول "نتحدث عن استعمال الجماهير، عن الإرهاب الشامل، عن ضعف معنويات الوسائل السياسية العسكرية للعدو، وهذا بتفادي الحديث عن انتصاراتهم وخسائرهم (ج.ت.و). والتشكيك في نية قادتهم وتسميم المحايدين، وقتل العناصر النشيطة وكل العناصر القيادية والخطباء ورجال الدعاية والمتخصصون في قضايا معينة. يجب إدخال عناصر موالية، ثم مراقبة كل الأوساط الاجتماعية، ووضع شعارات تتماشى مع المرحلة، والإعادة المستمرة للتصريحات وإعادة أيضا نفس الموضوعات عن طريق المناشير ووسائل النشر، مع استقطاب الإعلام. ويوضع كل هذا على حساب العدو(أي جبهة التحرير الوطني) ".

ويتابع صاحب الموضوع قائلا إن مواجهة الحرب الثورية، يتم عن طريق القمع البوليسي والإداري والعسكري... والتدخل بواسطة بعض الميليشيات للدفاع الذاتي، والوحدات الإقليمية، ثم تجميع الاحتياطي الذكي والمتحرك لضمان الضربات القاضية وفي الأخير نمارس حرب الإبادة، وتجميع أغلبية السكان.

وذهب بعض المنظرين إلى الاستدلال بابن خلدون (دخلت هذه الطريق في التقاليد الكولونيالية منذ زمن بعيد) ليخرج من جعبته هذه المقولة العنصرية : "إذا لكم يكن العربي (الجزائري) على أربعة أرجل أمامك، فهو خلفك بسكين".

وأدى هذا التفكير (البحث فس كيفيات القضاء على الثورة، وما دامت ثورة شعب، فالقضاء على الشعب بأكمله إذا أمكن)، إلى بروز وتسويق أبشع النظريات في القتل والإبادة والقضاء على الثورة، وخرجة من أمخاخ المتخصصين هذه الطرق المتمثلة في "الدوب" و "الصاص" والتي كانت تعمل الأولى لإرهاب المواطن الجزائري والثانية لتدجينه وترويضه فكريا. هذان الجهازان يعملان بالتكامل: يعمل الصاص ، على التأثير العقائدي والأيديولوجي، بغرس الأفكار الكولونيالية، وفي  حال وجود عناصر غير قابلة أو صعبة التقبل للعمل العقائدي فإنها  تحال على (الدوب) على أساس أنها موالية لجيش أو لجبهة التحرير الوطني، لتمارس عليهم كل أنواع التعذيب للحصول على المعلومات، مهما كان الثمن، وكان الحصول على المعلومات هو أساس نشاط هذه المحتشدات إلى جانب العمل الدعائي أو الحرب النفسية.

فالعمل الدعائي يهدف إلى السيطرة على "عقول وأرواح" الجزائريين، وتقوم بهذه المهمة (مكبرات الصوت، الدعاية، والمناشير).(H.P.T) وهي وحدات متحركة تذهب إلى مراكز التجميع، أو السمن أو استدعاء السكان في البراري لإسماعهم "الكلمة الجميلة" وكانت مخابرات هذه الوحدات المتخصصة هي السجون التي مورست فيها عمليات "غسل الدماغ" وعمليات "الإقناع" والتعذيب والإعدام الاستعراضي وانتهاء  بخلق "ثورات مضادة" مسلحة كانت (الحركة والقومية، والدفاع الذاتي قوات معروفة وغير سرية وتعد  قوات إضافية للجيش الفرنسي).

ومن هذا العرض لمختلف الكتابات، والنظريات في مجال الحرب النفسية للسيطرة على العقل والإرادة، ومحاولة تحجيم العمل الثوري، نستطيع أن نستشف المبادئ الأساسية التي اعتمد عليها الاستعمار في إدارة الحرب النفسية. وقبل أن نتطرق إليها نلاحظ  بأن المنطلقات النظرية للاستعمار في إدارة الحرب النفسية. وقبل أن نتطرق إليها نلاحظ بأن المنطلقات النظرية للاستعمار تنطلق أساسا من عدم فهم عميق للثورة المسلحة. كل التحاليل ترى أن جيش التحرير يمارس ضغطا على هذا الشعب، وحسب منطق الاستعمار يؤدي حقا إلى القضاء على ثورة شعب، والجيش طليعة الشعب والجبهة هي أداته السياسية الإدارية.

المنطق الثاني : هو إبقاء الجزائر فرنسية مهما كلف ذلك.

وقد اعتمدت الحرب النفسية التي قام بها الاستعمار الفرنسي في الجزائر بالدرجة الأولى على العمل المعلوماتي وكانت لها الأسس التالية:

1-         إخلاء الريف من السكان بالترحيل الجماعي للفلاحين.

2-         الانتقام الدموي ممن يفرض الخضوع لهذه الإجراءات أو يتباطأ في التنفيذ.

3-         إنشاء الحصار بواسطة مراكز عسكرية، والمحتشدات والتجمعات.

4-         استعمال وسائل عديدة للدعاية والإقناع وغسل الدماغ الذي طال حتى القوات الفرنسية.

5-         عزل الجزائر أقصى ما يمكن، وغلقها، وتركها في يد المتخصصين النفسانيين وخادميهم.

6-          إدخال عملاء في صفوف جيش وجبهة التحرير الوطني، للقيام بمهام معلوماتية أو تخريبه (كسلم الأبطال، الانهزامية وغيرها).

7-         استعمال التزوير، الصحف، الرسائل، المناشير، والتقارير.

ونذكر من بين هذه الأعمال الثورة المضادة، كجيش بلحاج الملقب بكوبوس. الذي كان يجند الجزائريين على أساس أنه جيش التحرير الحقيقي، وبعد انكشاف حقيقته قتله أحد أفراد جيشه، قبل أن يلتحق كل أفراده بجيش التحرير الوطني ومعهم أسلحتهم التي منحهم إياها الجيش الفرنسي. وهناك تجارب أخرى (كجيش بلونيس) والتي انتهت كلها نهاية مأساوية. ولو ينجح الاستعمار في هذه المهمة ولم ينجح منظورو الحرب النفسية وأصحاب المكتب الثاني والمكتب الخامس.

هذه السياسة هي في الحقيقة، سياسة قامعة شاملة، في جوانبها العسكرية و السياسية والاقتصادية وكانت الإدارة الاستعمارية تعرض أما الرأي العام هذه الأعمال وكأنها محاولة لتغطية عجزها في المجال الإداري باعتبار أن مناطق كثيرة لا زالت دون المستوى الإداري المرغوب فيه. ولكنها في الحقيقة إحدى أوجه القمع التي لغت أوجهها خلال حرب التحرير وشارك فيها العسكريون والمدنيون على حد سواء. فالتعذيب أصبح نظاما قتاليا، بقوانينه، ونظمه ومنظريه وأخصائية الممارسين...

لقد دمرت القرى بكاملها، بسكانها، بأطفالها، ولم يبق لها أثر على الخريطة بعد قنبلتها بالنابالم، وبقيت أماكن طمر المئات من الشهداء غير المعروفة حتى الآن، ومقابر جماعية مجهولة أيضا، إلى جانب تهجير السكان ونقلهم من مكان إلى آخر. وتكديسهم في تجمعات سكانية وراء الأسلاك الشائكة، وحضر التجول في كل المدن، بعدما أصبحت الجزائر تعيش تحت أوامر السلطات الخاصة منذ 12 مارس 1956، وبعد تحصل (روبار لاكوست) الوزير القيم في الجزائر آنذاك على الممارسة السلطات الخاصة.

ويقول أحد المظللين من الذين عملوا بالجزائر إبان حرب التحرير: "إننا نطلق النار وسط الجماهير، حسب ما نرى نحن. وكلما نتقدم نكتشف الجثث..قائد الكتيبة أعطى الأمر في آخر الأمر، على أن نطلق النار على أي عربي نلتقي به بعد السابعة مساء. وفي السادسة صباحا من اليوم التالي، نجد أمامنا المئات من المسجونين(...) الذين كنا نضع كل الأسلحة أمامه، فكانوا يبدو ان في الصراخ فنطلق النار عليهم وبعد عشرة دقائق ينتهي كل شيء...إنه عدد كاف لدفنهم بالجرافة.

من العاشر ماي 1956 إلى جوان 1956 تمت قنبلة 18 قرية في منطقة الصومام، كما هو الأمر في العديد من مناطق القطر الجزائري.

في المحتشدات كالصاص، يقول أحد الضباط "في أحد الأيام فقعنا كبد أحد المسجونين، ثم تأكدنا من براءته، وهناك مثل آخر يأتي في قودار.Godar منظر الحرب الثورية المضادة، وعرض الجثث في الشوارع. ولقد وصل إلى حد قتل أحد أفراد العائلة ثم تسمير جثته على باب بيت العائلة. حصل هذا إبان "معركة الجزائر". وتوصلت السلطات الاستعمارية في تعالمها مع الثوار إلى إرغامهم بعد سلسلة من التعذيب على إفشاء الأسرار، مع تهديدهم في حالة رفضهم بالانتقام من عائلاتهم...الكثير من الثوار أخذوا سرهم معهم إلى القبر، بعد سلسلة التعذيب، والبعض استطاع أن يعبر الامتحان بشجاعة قلما نشاهد مثلها في التاريخ.

هذه هي سياسة المكاتب الصاص الذي ينعته التقرير كالتالي"الصاص موجه ولمدة طويلة، ليجسد في البلاد الواقع الملموس، لفرنسا ونؤكد أن هذه المكاتب تظهر لأول مرة في الكثير من المناطق".

ويأمل التقرير أن تعمم هذه العملية حتى تشمل كل حي من أحياء المدن والقرى وعن ذلك يضيف التقرير، (هو الشكل المستقبلي ويمكن أن يضمن في المستقبل الانتقال من الشكل العسكري الإداري إلى الشكل الذي تصبح فيه الجزائر تدار كمقاطعة فرنسية حديثة، والذي نتمنى أن يكون قريبا).

كل هذه الأعمال تهدف إلى وضع الشعب وراء الأسلاك الشائكة وعزله عن الثوار ومراقبته والتحكم فيه. مع القيام بالعمل الدعائي للسيطرة على عقول الناس. بعدما تمت السيطرة على الأجساد.

فالمناطق المحرمة، والصاص، والصاوو، والدوب، ومراكز التعذيب والاستخبارات، ليست لتدارك نقص التأطير الإداري بل هدفه النيل  من إرادة هذا الشعب وتدجينه وقد أنجزت المناطق المحرمة بطريقتين: إما بعد عمليات عسكرية واسعة، يكون لها تأثير كبير لجيش وجبهة التحرير فيتم إخلاء المنطقة في الحين دون سابق إنذار إداري أو إشعار للمواطنين.

الطريقة الثانية تتمثل في تحضير المناطق المحرمة في المكاتب الأركان العامة للجيش الفرنسي في مكاتب الأركان العامة للجيش الفرنسي بعد تفحص للوضعية على اثر العمليات العسكرية، التي كان يقوم بها جيش التحرير الوطني وتعلن هذه المناطق محرمة، بعد إنذار غير كاف للسكان بمغادرتها، وعادة ما كان يعلن الجيش الفرنسي هذه المناطق محرمة بعد صعوبات السيطرة والحسم العسكري مع جيش التحرير الوطني وهذه العملية تسهل عليه التنقل في الجبال و المناطق الصعبة. وتوسعت العملية حتى شملت  تقريبا كل الأماكن الجبلية والهضاب العليا. وقلصت من نشاط الرحل في هذه المناطق، وبقيت آثارها حتى بعد الاستقلال.

أدى إنشاء المناطق المحرمة على تهجير آلاف العائلات باتجاه أربع مناطق: مراكز التجميع، المدن، المناطق الحدودية (الشرقية والغربية). وتقع مراكز التجميع بالقرب من مركز عسكري، وتحيط بها الأسلاك الشائكة، أو تكون داخل الخطوط المكهربة على امتداد الحدود بالقرب من مركز عسكري. وعلى إثر هذه السياسة ترك الفلاحون أراضيهم وماشيتهم، يأخذها المستعمر، ليعيش من الصدقة التي تقدمها الغدارة الفرنسية وقد كان لهذه المراكز تأثير مدمر على صحة الجزائريين مما أدى إلى ارتفاع عدد المرضى والوفيات.

وصل عدد الجزائريين في مراكز التجميع سنة 1960إلى 2.175.000 أي ما يعادل ربع ¼ السكان، 3 ملايين مهاجرين من أراضيهم نحو مناطق أخرى.أي ½ السكان تم ترحيلهم..إنه اكبر تنقل بشري عرفه التاريخ !! .

الحواجز الحدودية والخطوط المكهربة

بناء الخطوط المكهربة كخط شارل وموريس. وتدخل هذه العملية ضمن إطار عول الثورة عن الخارج واثر هجومات جيش التحرير سنوات 1955 –1956 ، بدا الاستعمار يحس بالخطر و أدرك أهمية تمويل جيش التحرير بالسلاح والأفراد المدربين المتسللين عبر الحدود. وبدأ أول خط في شهر أوت 1956 على امتداد 200 كلم قام بإنجازه الوزير أندري موريس صاحب شركة إنتاج الأسلاك  الشائكة. 

وفي شهر ديسمبر 1956، بعد أن زار (سالان )الخط جاءته فكرة إنشاء خط مماثل في الحدود الشرقية وشرع فيه سنة 1957 وانتهت أشغال الخطين سنة 1959.

الهدف من إنجاز الخطين.

1-                                       مراقبة كل مرور الأشخاص أو السلاح ومنعهما في حالة حدوث ذلك.

2-                                       حماية السكك الحديدية التي تسير موازاة  مع الحدود وفي بعض المناطق التي تنقل المواد الخام أو السلام.

ففي الغرب يحمي الخط المكهرب الملغم، الخط الحديدي الذي يربط بين مشرية وبشار القادم من وهران.

 والخطوط المجهزة بمراكز مراقبة ورادارات وأضواء كاشفة فوق الآليات المجنرة والطائرات.

وقد أطلق أحد الاختصاصيين النفسانيين على هذه الخطوط اسم "سدود الموت" .

طول الخط الشرقي حوالي 460 كلم، لقرب المناطق الصحراوية من العتاد، خاصة لحراسة الحدود. وصل عدد الجيش بالخطوط 80 ألف عسكري بضعة دائمة. وهي من "وحدات النخبة" ورغم هذا فإن جيش التحرير طور أساليبه وأصبح يخترق هذه الخطوط رغم  كل الأخطار والصعوبات.

   جندت كل الوسائل، عسكرية، سياسية، إدارية، اقتصادية، وأنشأت الجيوش الموازية وخلقت الثورات المضادة وأنتجت النزريات العسكرية، النفسية وحاصرت كل البلاد بالأسلاك الشائكة (مع أننا لم نتطرق للقوات البحرية وتطويرها لحراسة المخارج البحرية ولم نتحدث عن الصحراء ومعاركها) ورغم كل هذا العدد الهائل من القوات الفرنسية ومن العتاد المتطور جدا. لم تدخل الآلة النفسية إلى نفوس الفلاحين الجزائريين، ولم تنل من عزيمة الثوار بل إلى تحقيق طموحاته و أهدافه، فهم أن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة وكانت الملحمة الكبرى في التاريخ المعاصر.


Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار/الحرب النفسية خلال الثورةالتحريرية/صال

الحرب النفسية خلال  الثورة التحريرية

 

الحرب الثورية،هي صراع عادل لشعب من الشعوب ضد قوة أجنبية متسلطة، يستخدم فيها كل ما يملكه من القوة العسكرية والنفسية والسياسية معتمدا على بنيته الاقتصادية وظروفه السسيولوجية وتركيبته النفسية، وتتميز هذه الحرب بـ:

1-اعتماد الشعب على دافع معنوي قوي يسمح له بخوض الحرب مهما كانت التضحيات لامتلاكه الحجة السياسية القوية وهي التحرر من نير الاستعمار والانبعاث من جديد.

2-لا يرتكز هذا النوع من الحرب على القوة المادية بقدر ما يعتمد على الإحساس الجماعي بالظلم والغبن بفعل مظاهر الضغط والقهر التي عادة ما تكون الوجه الآخر لاستعمار وبالتالي فإن التوعية السياسية تكون أمرا ميسورا لاستقطاب الجماهير الشعبية حول هذه الحرب.

3-يرتكز استمرار الحرب الثورية على تطوير أنواع الدعم المعنوي الذاتي ويمتد إلى معسكر الخصم لإضعافه وتقسيمه إلى أراء ومواقف يسمو في النهاية إلى المعسكر العالمي لاكتساب الأصدقاء والدعم المادي لحياة الثورة.

4- استخدام استراتيجية الحرب الطويلة الأمد والحرب السرية ثم العنف الثوري مع الارتقاء بالصراع من مستوى إلى أخر أعلى، حتى يتم انهيار وتصدع العدو داخليا وخارجيا.

تعتبر الثورة الجزائرية نموذجا رائعا للحروب الثورية لما أعطته من نتائج سياسية عسكرية قلما نجد لها مثيلا في الحروب الثورية الأخرى.

في البداية كانت لا تزيد على مجموعة من الرجال لا يملكون من الوسائل آلا الإيمان بعدالة قضية بلادهم،وقد دفعتهم إلى انتهاج المسلك الثوري عوامل عدة من بينها فشل الحركة الوطنية في التقدم ولو خطوة واحدة إلى الهدف،وهو ما خلق إحساسا لدى المواطنين بعدم جدوى المقاومة بالطرق السلمية،وجعلهم يحرمون بأن ما اخد بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة خاصة وان المحيط الدولي يومها لا يدع مجالا للشك في حتمية العمل الثوري لبلوغ  هدف الاستقبال، وكمثال على ذلك الحرب الفيتنامينية التي أسفرت على هزيمة فرنسا في معركة (ديان بيان فو) وأيضا نجاح العصيان التونسي في الحصول على الاستقبال الداخلي للبلاد.

ومن هنا فإن النخبة وضعت نصب أعينها أيقاظ وعي الجماهير من غفوتها  بتظاهر عنيفة تثبت إرادة الاستقلال والتحرر لدى الشعب الجزائري، وتجلت بصفة خاصة في الأعمال القتالية التي شنتها الثورة في ليلة أول نوفمبر، إيذانا ببداية عهد جديد من التحدي،تميز ب:

1-                           تجنب المجابهة الدامية المباشرة للتغلب على عامل التفوق المادي .

2-                           اعتمادا أسلوب الكمائن والغارات المفاجئة .

3-                           التخطيط والتفنيد لفك الحصار على الثوار والثورة بعاصمتها الأوراس لتجنب خنقها في المهد.

4-                           التوسيع التدريجي لرقعة الصراع حتى تشمل كامل التراب الجزائري.

5-                           استغلال مزايا  الطبيعة للمناطق الجبلية في العمل العسكري ، واستغلال مزايا العمران للمدن الكبرى في النشاط الثوري.

6-                           تكوين النظام المدني للثورة وإنشاء المنظمات الجماهيرية وتمثيل الجبهة في كل المداشر والأحياء والسجون والمعتقلات والمؤسسات التي يوجد بها العمال الجزائريون.

السعي إلى تمثيل الجزائر على المستوى الدولي سياسيا ورياضيا وثقافيا، لما لذلك من أهمية في تجديد دم الثورة  واكتساب مواقع أخرى جديدة.

وهذا المشروع الطموح الذي انطلقت به الثورة التحريرية غذته عوامل عديدة من بينها :

1- التكوين العسكري لبعض الجزائريين الذين شاركوا أو أشركوا في حروب خاضتها فرنسا ضد قوي خارجية.

2- طبيعة الأرض الجزائرية المتباينة التضاريس، ثم التخطيط العمراني للمدن كحي القصبة الذي أعطى لمقاومة طابعا متميزا للعنف الثوري.

3- بنية المجتمع الجزائري الاجتماعية والنفسية التي جعلت مبدأ التكافل الاجتماعي يتحقق في أسمي معانيه.

4- رياح التحرر التي اجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

5- السرية التامة في الإعداد و المفاجئات في التنفيذ مما أعطى العدو بعدا غامضا عن الإمكانيات المتوفرة أضفي على الجماهير شعورا بالثقة في الثورة الجامحة.

6-التنظيم  المحكم والقيادة الجماعية لتجنيب الثورة احتمالات الانحراف التي قد تنجز عن عثرة الزعيم أو نزوته، وهذا الطابع حصن الثورة وزاد من موقعها النفسي  وتأثيرها الإيجابي على العمل الميداني بالجبال والمدن.

7-                           جعل آفتاك السلاح شرطا أساسيا لكل من يرغب في الانضمام إلى الثورة.

وإلى جانب كل هذه العوامل، كان لبيان الفاتح من نوفمبر الذي جاء على شكل دعوة صريحة للشعب إلى الكفاح المسلح، الأثر الإيجابي في نفوس المواطنين خاصة وأنه ترفع عن الانتماء السياسي،ولم يعلن إذعانه لأية شخصية بعينها، مما جعل الباب مفتوحا على مصراعيه لانصهار كل الألوان والاتجاهات الوطنية في العمل المسلح المباشر وهو ما ساعد على نسيان ونبذ النزعات القديمة وتكريس الوحدة الوطنية لخوض المعركة الكبرى.

إن القفزات النوعية التي عرفتها الثورة أذهلت العدو وجعلته  يبذل جهودا، مضنية لتكييف وسائطه وطرف الرد على العمل الثوري لإجهاض وإيهام المعكرين والجزائريين بعدم وجود شيء يسمي الثورة، وقد ركزت فرنسا في البداية على تصفية القضية بالوسائل العسكرية بمنح العسكريين كل السلطات وتقسيم البلاد إلى مربعات ومحتشدات لخنق النشاط الثوري غير أنها أدركت وبسرعة فائقة بأنها لن تستطيع ذلك ما لم تجابه الثورة بنفس أسلوبها مع استمرار الحرب العدوانية وسياسية الأرض المحروقة، وهو ما جعل المواجهة النفسية للثورة تشكل محور اهتمام كل القادة الفرنسيين، حيث تم اللجوء إلى استعمار احدث فنونها على نطاق واسع عندما أيقنوا بأنه لا شيء يستطيع تغيير تصميم الشعب الجزائري على الكفاح مهما جند لذلك من جند وعتاد.

هذه النتيجة التي وصلت إليها فرنسا في تعاملها مع احدث الثورة جعلتها تستعمل كل الوسائل لضرب الثورة، مما عرض الشعب الجزائري لألوان من الاضطهاد كان قد استخلصها العدو من تجاربه في الهند الصينية ومن أساليب النازية، ويمكن تخصيص الجليات هذه الحروب فيما يلي:

1-   استعمال سياسة الترغيب ودعم فكرة الانتماء إلى فرنسا، ثم التحذير في الوقت نفسه من مغبة مقاومتها والخروج عن طاعتها لأنها القوة الوحيدة القادرة على تسيير البلاد وتنظيم الشعب.

2-   التذكير بعظمة الدولة الفرنسية وقوة جيشها بحيث يعدو التفكير في محاربتها والتغلب عليها من قبيل المستحيلات.

3-   تذكير الشعب الجزائري بالماضي القريب الذي عرف فشلا ذريعا لكل المقاومات المسلحة بسبب قوة فرنسا وعدم  إمكانية الشعب الجزائري من تنظيم نفسه بشكل يجعل منه أمة تقود المعركة إلى النصر.

4-   التذكير بالتجارب الأليمة القريبة كمذبحة 8 ماي1945 وإمكانية تكرارها إن مست مصالح فرنسا الإستراتيجية .

5-   استعمال وسائل الإعلام للنيل من الثورة و سمعة الثوار بل ووصل الأمر إلى تزوير وسائل إعلام كانت ملكا للثورة كإخراج اعد مزيفة من جريدة المجاهد وإنشاء إذاعات تخاطب المواطنين بواسطة مأجورين هدفهم إثبات عزائم الجزائريين وتشكيكهم في قدرة العمل المسلح على بلوغ هدف الاستقلال.

6-   تطبيق مبدأ العقاب الجماعي كلما ظنت أن ذلك سيغزل الثوار عن الشعب.

7-    تحريك النعرات العرقية والسياسة القديمة وتكوين طوابير عديدة تطبيقا المقولة فرق تسد هي مجدية في هذه الظروف بالذات .

8-   استعمال العملاء و حثهم على القيام  بنفس الأعمال لإحداث الشروخ بين أبناء الشعب الواحد.

9-   إنشاء مكاتب تقوم بشؤون الأهالي محاولة منها لربط الشعب الجزائري وشده إليها .

       لقد تواصلت الحرب على هذا المنوال ضد كل ما هو جزائري وازدادت  ضراوة وشراسة كلما اقتربت الثورة من الهدف في عهد العجوز (ديغول) الذي خطط للقضائي على الثورة  على جبهاتها الثلاث:

1-الجبهة العسكرية بتطبيق  سياسة الأرض المحروقة وإقامة المحتشدات والخطوط المكهربة وعمليات المسح والتمشيط الضخمة للقضاء على جند جيش التحرير.

2-الجبهة الاقتصادية بتحسين الظروف  الاجتماعية للمواطنين   كما يتجسد في مشروع  قسنطينة .

3-الجبهة السياسية بالسعي إلى إيجاد أو تكوين طرف أخر يطلع بمهمة التحاور مع إدارة الاستعمار  بدلا من جبهة التحرير الوطني .

غير أن الثورة بفضل تماسك بنيانها، عرفت كيف تخرق مخططات الاستعمار على الأصعدة الثلاث السالفة، وتدحضها بقوة الحجة وحسن تدبير القيادة وتجنيد الأمة حول مشروع الاستقلال الوطني.

إن حاجة الثورة لسند المعنوي و القوة النفسية التي تعينها و تعوضها ضعفها وانحصار ماديتها، شكلت مجموعة مبادئ عزرتها وأعطتها الدفع القوي لتمضي قدما في طريق صناعة التاريخ وأهم هذه المبادئ هي :

1-توحيد المجهود الوطني حول هدف الاستقلال مع غلق كل الأبواب على الخلافات السياسية والنعرات القبلية المعهودة.

2-وضع شروط وقيود للانضمام إلى صفوف الثورة، وذلك على الرغم من أنها في حاجة إلى جميع أبنائها إذ أن الظروف الصعبة أدت إلى ابتكار أساليب واختبارات صارمة للانضواء تحت لوائها، وقد فرضت على الراغب في الالتحاق بها  أن يقدم براهين عملية البراهين عملية التأكد من سلامة نواياه.


3-توسيع مفهوم الانضمام على الثورة :  الانضمام  لا يعني بمنطق الثورة الصعود للجبل وحمل السلاح فقط، ولكنه يتمثل أيضا في مساعدة الثورة والارتباط بها وتنفيذ تعليماتها في المدن والقرى والمهجر والسجون والمعتقلات .

4-العمل العسكري المعبر: للعمل العسكري قيمة تزداد كلما كانت فاعليته غير محدودة في الزمان والمكان لما له من صدى نفسي عميق عند القوات الصديقة والمعادية، وأبرز عمل عرفته الثورة إلى جانب معركة الجرف التاريخية التي برهن فيها الجزائريون عن قدرتهم وعلى مواجهة ظروف المعركة الحديثة، نجد هجوم 20 أوت 1955 الذي رسم  هدفا يتمثل في دحض مقاولة انحصار الثورة في منطقة الأوراس وحدها.

فكانت لهذه العملية التي أبرزت حقيقة إزماع الشعب الجزائري على انتهاج طريق العمل المسلح كأسلوب لا رجعة فيه من أجل استرجاع السيادة. ورغم أن نتائج العملية كانت رهيبة بالنظر إلى الرد الفرنسي، إلا أنها حققت أغراضها كاملة، حيث أظهرت للإرادة الاستعمارية أن الثورة قادرة ومستعدة للتضحية، فأحست في النهاية بأن رياح الثورة عاتية، وان الأمر لم يعد مجرد مجموعة من الخارجين عن القانون كما يحلو لوسائل إعلامها تسمية الثوار.

5-العنف الثوري:  ويتمثل في القيام بعمليات تقتيل وتحطيم لمنشآت المعمرين كلما كان ذلك ضروريا لرفع معنويات الشعب وبعث الذعر في نفوس المعمرين.

6-المقاطعة الاقتصادية:  من الأساليب التي ابتكرتها الثورة في تحديدها لظاهرة الاستعمار الامتناع عن اقتناع أو التعامل مع كل ما هو فرنسي، وقد أدى التجاوب معه إلى دعم الجانب النفسي، الاجتماعي للشعب الجزائري وأضحى هناك تمييز بين ما هو وطني، وما هو غير وطني، وكان كل من لا يطبق تعاليم الجبهة مرشحا لأن يوصف بالخيانة ويصبح محل الرقابة الشعبية، وقد أدى فرض قاعدة سلوكية كهذه غلى خلق ظواهر انضباط جديدة للمجتمع الجزائري الجديد، أعطت للعمل الثوري مضمونا إنسانيا رفيعا وجديرا للافتخار.

7-التنظيم الاجتماعي للشعب :  أمام حزم الثورة وتصميمها على ضرب كل من يتعامل مع المستعمر كان ضروريا خلق و إيجاد نظام للثورة يعوض إدارة فرنسا ويشكل سندا قويا للشعب،ويؤدي إلى عزل فرنسا و جماهيريا. وقد عملت الثورة على مددها إلى كل القرى والمدن والسجون والمصانع وحتى إلى المهجر، فأنشأت محاكم لزواج وبلديات ثورية ونوادي وممثلات في الخارج، كما لم تتخل عن ذوي الحقوق من أرامل وأبناء الشهداء ومعطوبين الحر..، وكان لكل ذلك أثره الإيجابي على المواطنين الذين لم تتزعزع ثقتهم قط بقيادة الثورة وإنما ظلت راسخة في النفوس رغم ردود فعل الطرف الأخر.

اعتمد التنظيم الاجتماعي  على نظام الخلايا قصد قطع الصلة مع ضباط الشؤون الأهلية ،كما كان لتكوين مختلف الاتحادات ضمانا أعطى قفزة  نوعية في الحرب النفسية الشاملة مما جعل المستعمر يدرك أن هذه الثورة قادرة على تنظيم صفوفها وتجنيد كل طاقاتها في هذه المعركة المصيرية.

8-صناعة الإعلام الثوري: استخدمت الثورة كل الوسائط الممكنة من أثير وصورة وملصقة مع ومناشير وجرائد للقيام بالدعاية  لصالح الثورة، ولعل أهم وسيلة لها في هذا الشأن هي ضباط المحافظين  السياسيين الذين كانوا في اتصال حميم بين القوات المسلحة والشعب.

كما لجأت الثورة إلى الإذاعات المتنقلة أو الموجودة داخل الدول الشقيقة لتمرير رسبتها إلى الأوساط الشعبية التي هي في حقيقة  الأمر جزء من التنظيم الثوري بكل ما تحمله الكلمة من معاني التفاعل المثمر والارتباط العضوي والعطاء اللامحدود.

ومن هنا فإن قادة الاستعمار واستراتيجي فكرة الاستيطان  في الجزائر وجدوا نفسهم في مأزق حقيقي لا يملكون معه سوى لعهد ظل وكأنه إحدى مسلمات الجغرافيا لفترة تجاوزت القرن من الزمان.

Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار/صالح مختاري /إنشاء سلاح الإشارة

إنشاء سلاح الإشارة

(مخابرات الإشارة أثناء حرب التحرير الجزائرية)

 

من بين الأعمال الجليلة التي أنجزها المجاهدون وسطرها التاريخ بأحرف لا يمحوها الدهر، الانتصارات العسكرية في ميدان القتال والعمليات الفدائية واستبسال المسبلين والمحافظين  السياسيين والممرضين والممرضات وغيرهم من أبطال جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني. غير  أن هناك عملا جليلا في الثورة المسلحة كثيرا ما كان يشق طريقه في الخفاء ولا يظهر رأي العين مثلما تظهر العمليات الأخرى ذات الطابع العسكري الكلاسيكي، ألا وهو سلاح الإشارة الذي جندت له القوات الاستعمارية أكفأ ما عندها من ضباط محنكين ومصالح سرية وجواسيس وما تملكه من أموال إمكانيات مادية ضخمة بغية إخماد هذا السلاح الجديد  الذي أنجزه جيش التحرير الوطني، قادة من وراء ذلك منع كل محاولة عملية ترمي إلى توحيد القيادة وتنسيق العمليات العسكرية، وقد استشهد في ميدان الشرف أكثر من ثمانين جنديا من رجال سلاح الإشارة عذب الكثير منهم في مراكز التنكيل والسجون. ولكن الصحافة الفرنسية لم تتحدث عنهم ولم تشر على الإطلاق إلى أبطال الإشارة، وهذا حتى لا يخطر على بال الرأي العام أن جيش التحرير الوطني يملك أحدث الوسائل العسكرية معتمدا في ذلك على تضحيات رجاله وذكائهم وعبقريتهم، وحتى تستمر الدعايات الاستعمارية المغرضة والكاذبة والقائلة بأن عناصر الثورة المسلحة هو قل من "فلاقة" وقطاعي الطرق "والخارجين عن القانون" غير أن قوات العدو أعدت كل الإمكانيات الجهنمية للوقوف أمام إنجاز وزحف ما يسمى بالهيكل العصبي لجيش التحرير، فقال في هذا الصدد الجنرال كريبان وهو يعطي التعليمات لجنوده : "إذا كان لكم الاختيار بين تدمير فيلق أو مركز للمواصلات فدمروا قبل كل شيء مركز المواصلات".

كيف أنشئ سلاح الإشارة ؟

أنجز هذا السلاح تلبية للأوضاع السياسية  والعسكرية التي عرفتها البلاد بعد سنة ونصف تقريبا من اندلاع الكفاح المسلح وتغلغل القوات الاستعمارية ومحاولات الحصار للأطباق على الوحدات العسكرية لجيش التحرير وتشتيتها حتى يسهل للعدو توجيه الضربات القاتلة لكل واحد منها على حدة، فالاستراتيجية المدبرة من قيادة الأركان الفرنسية كانت تهدف إلى تحقيق غاية واحدة: هي تمزيق شمل القوات العسكرية الجزائرية ومنع توحيدها وتنسيق عملياتها لتصبح في النهاية مبعثرة  متجزئة متفرقة  لا حول ولا قوة لها ولا رابطة بينها لأن مجابهات الحروب الشعبية تعتمد أساسا على منظومة تضمن اتصالاتها وربط قياداتها حتى تستمر في أهدافها السياسية والعسكرية. لذلك فالثورة كانت تعتني دوما بشبكة اتصالاتها. وقبل هذا وفي سنة 1951 انتبه مسؤولوا المنظمة السرية لحزب الشعب الجزائري إلى التفكير في إقامة شبكة للمواصلات  تربط بين عناصرها وفرقها وتم تعيين المسؤول المشرف على المشروع المرحوم المرحوم ماروك. ثم تواصلت المهمة تحت إشراف الشهيد العربي بن مهيدي والمرحوم بوصوف، وهما كما نعرف من قادة المنظمة السرية، في سنة 1956 أصبح اللجوء إلى الاتصال على الأقدام الذي اعتمد عليه آنذاك غير كاف نظرا لشمولية الثورة واتساع رقعتها ودقة تنظيمها. وعلى سبيل المثال كيف يحتمل أن تنتظر قيادة ما او وحدة ما أو هيئة وطنية أو جهوية يومين أو حتى 24 ساعة لكي تنسق أعمالها مع الآخرين والوضع في الميدان يتسابق مع الزمن. فساعة بل دقيقة لها تأثيرها البالغ في نتيجة المعارك ومصير الرجال والنظام. وإذا شاء القدر أن يكون  بن مهيدي وبوصوف هما اللذان فكرا في إقامة شبكة للمواصلات بالحدود الغربية فإن جهات عديدة في مختلف الولايات قد جهزت هي الأخرى وسائلها لبلوغ نفس الغرض ومما يدل على حرص الرواد الأوائل للثورة على تقوية صفوف جيش التحرير أن بن مهيدي نفسه كان يجعل سماعات جهاز الراديو على أذنيه ليلتقط بعض ما يرسل للعدو من برقيات وذلك سنة 1955. أضف إلى هذا الضرورة الأكيدة التي أشرنا إليها، وهي الحصول على شبكة تربط بين وحدات جيش التحرير  أمر آخر كان محل اهتمامات القيادة ألا وهو إقامة منطقة محررة بالغرب الجزائري لتكون بداية لتحرير كل جزء من اجزاء البلاد. وجعلها قاعدة تتمتع بالسيادة الوطنية وتكون بداية لنهايته. فما هي الوسائل العسكرية المنتظرة لإنجاز ذلك؟ الجواب يكمن في الأسلحة الضخمة التي كانت القيادة الغربية تنتظرها مع وصول الباخرة (لاطوس) ومن بين الأجهزة الموجهة إلى جيش التحرير عن طريق البحر عدد من الأجهزة (اللاسلكية). والواقع أن الاستراتيجية العسكرية المدبر من طرف القيادة لم تقتصر على تزويد الوحدات العسكرية بالأسلحة الكلاسيكية، بل بالأجهزة اللاسلكية أيضا، وهذا حتى تتواصل خطة التحرير حازة ومنسقة. ومع الأسف فإن الباخرة المنتظرة قد حجزت من طرف العدو في نوفمبر 1956. ولكن الأعداد البشري والتصور لإقامة منظومة للمواصلات اللاسلكية توحد بين أطراف القيادة والوحدات ظل قائما، ولم يفتر جهاد الثورة على الإطلاق بل استمرت تتحدى العدو وما لديه من قوات جهنمية.

إقامة أول شبكة للمواصلات الوطنية

 بعد الضربة القاضية المتمثلة في حجز باخرة (لاطوس) والتي حالت دون إنشاء منطقة محررة استمرت المجهودات دون كلل لإنشاء سلاح الاستشارة، وتتمثل الاستمرارية الصلبة للثورة في الكلمة الشهيرة التي ألقاها سي بوصوف على مسامع بعض المسؤولين الذين تغلب عليهم اليأس بعد قضية (لاطوس). قال لهم بوصوف : "أراكم تبكون مثلما تبكي النائحات في الجنازة، وأني أعطيكم ساعة أو أكثر لتجف دموعكم بعدها أتمنى أنكم ستسترجعون صوابكم وإذ ظننتم أن الثورة تتوقف عند كل حادث عابر فإنكم لن تفهموها أبد". إذا فكرة إنشاء سلاح الإشارة أصبحت واضحة من الناحية النظرية على الأقل، ولكن شتان بين الفكرة وما كنا نكسب من وسائل متواضعة جدا، سواء من الناحية البشرية أو من الناحية المادية، أما من الناحية البشرية فكان عدد المجاهدين قليلا يمثل الهيكلة الأولى المكلفة بإنجاز سلاح الإشارة وهي لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة من الرجال ليسوا مهيئين على الإطلاق من حيث الكفاءة الفنية إلى إنجاز هذا السلاح، فانطلقنوا إذن من الصفر ولكن إرادتنا في رفع التحدي ودك العدو كانت أقوى من كل شيء، الاعتماد على الله وعلى النفس جعلنا نحقق ما نرمي إليه. ومادامت الشبكات اللاسلكية تحتاج إلى إطارات تتمتع بمستوى فني عال فتحت القيادة أول مدرسة سرية لتكوين المخابرات الجزائريين. حدث ذلك يوم 6 أوت 1956 بالحدود المغربية مدرسة كانت تشمل على عدد يقارب الثلاثين من مناضلي جبهة التحرير يتمتعون بمستوى ثقافي يتلاءم مع القدرة الفنية المطلوبة وتم التربص بعد شهر فقط من التكوين ! وإذا علمنا أن أدنى تكوين في نفس المجال لا تقل فترته عن سنة على الأقل تقدير إلا أن مدرسة جيش التحرير قد ضربت الرقم القياسي في مجال التكوين، وتوزعت الإطارات المتخرجة من المدرسة العسكرية على المناطق مجهزتين بوسائلهم المختلفة المغنومة في لأغلبها من الجيش الفرنسي أو المقتناة عن طريق مصالح الثورة الخاصة في الخارج.

وعند مطلع سنة 1957 أصبح جيش التحرير يتوفر على العشرات من المحطات اللاسلكية التي ترسل برقيات من مختلف المناطق إلى القيادة المركزية وتستقبل الوحدات العسكرية أوامرها بنفس السرعة والدقة التي تتمتع بها وحدات العدو. وبالإضافة إلى الربط اللاسلكي حقق جيش التحرير نتيجة أخرى لا تقل أهمية عن إنجاز الشبكة اللاسلكية ألا وهي افتتاح إذاعة الجزائر الحرة في شهر ديسمبر 1956.

واستمر العمل الثوري في مجال سلاح الإشارة حتى تعزز جيش التحرير بالأجهزة الحديثة ووقف في وجه العدو على جبهة أخرى أرهقت أعصابه وكلفته ثمنا غاليا، ألا وهي "جبهة الأمواج" جبهة سقط في ساحتها الكثير من الشهداء المخابرين كانت أعمارهم لا تتجاوز 25 سنة، اختلطت دماؤهم الزكية بدماء الأبطال الآخرين من جنود وفدائيين ومسبلين، دماء خرجت الجزائر بفضلها من الظلمات إلى النور يوم 5 جويلية 1962.


Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار / اختصار مراحل الثورة /صالح مختاري

اطارات المنظمة يتخذون قرار باختصار مراحل التحضيرات

في اللقاء الأول الذي جمع إطارات المنظمة العسكرية، طرحت الأزمة التي يعيشها حزب حركة الانتصار للنقاش الواسع، والتحليل المعمق وقد توصل الجميع إلى نتيجة مفادها، أن الحزب قد وصل إلى مأزق لا يمكنه التخلص منه، وـن لا فائدة ترجي من المحاولات المتكررة التي يقوم بها أعضاء المنظمة العسكرية مع الطرفين المتصارعين.

وخوفا من ولوج أعضاء المنظمة العسكرية النفق المظلم، الذي لا مخرج منه، وبالتالي ضياع فرصة الكفاح المسلح من أيديهم. قرر إطارات المنظمة وبالاجماع التخلص من الأزمة الخطيرة التي يتخبط فيها الحزب، وهي مرحلة كان لابد عليهم من تجاوزها، لأنها استنفذت كل الوسائل، وأصبحت تتميز بالخيبة والحزن واليأس القاتل لكل الوطنيين المخلصين لمبادئ وأهداف حزب الشعب الجزائري، المحل سنة 1939.

وكان القرار الذي اتخذه إطارات المنظمة العسكرية يعتبر في غاية الأهمية لأنه يختصر مراحل التحضيرات، ويتنقل مباشرة إلى المرحلة الأخيرة في التحضير للثورة، والمتمثل في انشاء "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"التي أصبحت حزب جبهة التحرير الوطني قادت الثورة الجزائرية ومكنت الشعب الجزائري من الثأر لنفسه والحصول على استقلاله بقوة النار والحديد.

Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار/حزب الشعب يتخذقرارحل المنظمة العسكرية ا

الحزب يتخذ قرار حل المنظمة العسكرية

 

عندما كشفت السلطات الاستعمارية المنظمة العسكرية، وألقت القبض على أغلب مناضليها. لم يفكر حزب حركة الانتصار في تدعيمها بعناصر جديدة لتعويض المناضلين، الذين ألقي عليسهم القبض. وإنما اتخذ قرارا رسميا يقضي بحل المنضمة نهائيا.

لم يكتف الحزب بذلك، وإنما سلك ابتداءا من سنة 1951 اتجهات إصلاحية تمثلت في الانتخابات، وإعطاء الأوامر امناضلي الحزب، لتوزيع الجرائد بطريقة علنية، مما يجعل الشرطة الاستعمارية تتعرف عليهم بسهولة، وقد  أصبح المناضلون نتيجة للمشاركة في الكفاح المسلح.

ولم يستصغ المناضلون الفكرة، وبلغ بهم الرفض إلى درجة أن صاروا يطالبون بالانخراط في المنظمة العسكرية لتعويض العناصر التي انكشفت، وإلغاء قرار حلها. وكان رد فعل الحزب تجاههم سريعا وقاسيا في نفس الوقت بحيث توعد بتفديم لمجلس التأديب كل من يثير هذا الموضوع مرة ثانية كما سوف يطرد من صوفوف الحزب نهائيا، بالإضافة إلى حث الجميع على عدم الإتصال بالمناضلين الفارين إلى الجبال والبوادي الخ من المنظمة العسكرية.

المنظمة العسكرية تتمرد على قرار الحل

على الرغم من الكارثة التي حلت بالمنظمة العسكرية، وتشتيت مناضليها بالسجن، والتخفي في الجبال والبوادي الخ، بالاضافة إلى الضغوطات الحزينة.

التي سلطت على مناضليها بهدف تسليم أنفسهم للساطات الاستعمارية كما عبر عن ذلك بمرارة العربي بن مهيدي بقوله: "يا إخواني الحزب خائنا" فان نشاطات المنظمة العسكرية لم تتوقف نهائيا، حيث واصلت في بعض جهات الوطن نشاطاتها العسكرية. من ذلك الاوراس، الذي واصل فيه بن بولعيد نشاطاته العسكرية، رافضا بذلك قرار الحزب الذي يقضي بحل المنضمة العسكرية.

كما استقبل الاوراس مجموعة من إطارات المنظمة العسكرية، من بينهم السادة، الأخضر بن طوبال، سي المكي، بوزيد، جيش عبد السلام، رابح بيطاط بالإضافة إلى مجموعة من القبائل الكبرى، الذي كان بعضهم يتواجد بصفة دائمة هناك، وبعضهم بصفة مؤقتة، ثم التحق بالأوراس مجموعة أخرى من إطارات المنظمة من الذين هربةا من سجن عنابة من بينهم السادة: مصطفى بن عودة، عبد الباقي، زيغزد يوسف، وبركات سليمان.

وهكذا نجد المناظلون سواء الذين التحقوا منهم بالجبال والبوادي أو الذين كانوا يتنقلون ما بين القرى والمدن، ظلوا على اتصال فما بينهم من أجل مواصلة التحضير للثورة، من خلال تكوينهم المراكز والمستودعات لخزن الأسلحة والذخيرة الحربية. زوكذذا تبادل المعلومات وتهيئة المناضلين بصفة خاصة والشعب بصفة عامة للثورة المسلحة.

غير أن حزب حركة الانتصار ظل يمارس ضغوطات على مناظلين المنظمة العسكرية أينما وجدوا، ففي الوقت الذي كانوا فيه منهمكين بالتحصيرات المكثفة للثورة، إتصل بهم رئيس الولاية الحربية السيد عمار بوجريدة، وقدم لهم اقتراحا نيابة عن الأمانة العامة للحزب، وقد كان الغقتراح على الصيغة التالية:

إما أن يقبلوا بتسليم أنفسهم إلى السلطات الاستعمارية فيدخلوا السجن، ويتعهد الحوب بتعيين محامين للدفاع عنهم. وبذلك يقضون مدة قصيرة في السجن،ويتعهد الحزب بتعيين محامين للدفاع عنهم. وبذلك يقضون مدة قصيرة قي السجن ثم يخرجون منه. وكان التأكيد بأنه لا داعي للخوف، حيث أن مرحلة الإستنطاق والتعذيب تكون قد مرت، وبالتالي يكونون قد انتقلوا إلى المرحلة القضائية، أي أنهم يدخلون السجن مباشرة بدون خضوعهم لعملتية التحقيق و التعذيب. وإما ان يغادروا البلاد إلى الخارج وبالتحديد إلى القاهرة، حيث يستقبلون هناك كلاجئين.

وفي تلك الفترة ضيقت عليهم السلطات الاستعمارية الخناق بواسطة 800 دركي متنقل (الحرس المتنقل) لمنطقة الأوراس. وصار الاوراس تنيجة ذلك مطوقا من جميع الجهات. وقد استشهد المناضل المكي بن جاب الله أثناء عملية الحصار والتطويق.

وتفاديا لكارثة محتملة بمنطقة الأوراس ضدر أمر من رئيس الولاية الحزينة بالجهة السيد حشاني ابراهيم بمغادرة المنطقة والتوجه إلى قسنطينة. وقد غادر المناضلون ليلا (في حدود الساعة العاشرة) مشيا على الأقدام دون أن يسلم لهم مسؤول الولاية نقةدا لأخذ حافلات النقل أو أي وسيلة أخرى يقطعون بها المسافة الطوةيلة. وبقوا مدة في قسنطينة لا يقومون بأي نشاط، ولم يعرهم الحزب أدنى اهتمام ثم تعرضو مرة أخرى إلى عملية النشتيت حيث رجع يعضهم إلى منطقة الاوراس، وبعضهم أخذ طريقه إلى العاصمة، وبعضهم اتجه إلى وهران.

وقد أصبح مناضلوا المنظمة العسكرية يعسشون في وضعية سيئة للغاية من ذلك أنه نتيجة لكثرة تنقلاتهم مشيا على الأقدام عبر الطرق غير المعبدة ومن خلال الشعاب والوديان والغابات، تآكلت أحذيتهم وصاروا يمشون شبه حفاة. رغم ان ثمن الحذاء وقتذاك لا يتجاوز ثمنه (100 فرنك فرنسي قديم).

ومع ذلك فعندما طلبوا من رئيس الولاية الحزبية تسليمهم مباغ لشراء أحذية رفض ذلك

مثال أخر عندما أصيب زيغزد يوسف بمرض في عينه ذهب على مسؤول الحزب السالف الذكر كي يناوله نقودا لعلاج البياض الذي أصاب عينه فناوله أربعين دور (200 فرنك فرنسي قديم) وقد عالجه رفاقه (بالسب والقصبة) أي بطريقة تشبه إلة حد بعيد معالجة البهائم (الحيوانات).

كما تعرض المناضلون إلى صعوبات من ناحية الإقامة، إذ كانوا عندما يلجأون القضاء ثلاثة أو أربعة أيام يقال لصاحب المنزل أنهم بمثابة قنبلة موقتة في داره،وبالتالي فان المناضل المقيم لا يستطيع ان يتحرك بحرية، بحيث لا يخرج، أو لا يتحرك أو لا سيمع له صوت حتى لا يتفطن الجيران إلى وجوده. ويبقى في بيت مقفول عليه إلى غاية منتصف الليل أو الواحدة صباحا، أين يسمح له لقضتء حاجته. وبمجرد مرور يومين على وجوده يصبح صاحب المنزل يعيش قي رعب.

ومن اجل لم الشمل لهدف مواصلة التحضيرات للثورة، إلتقى مجموعة من المناضلين المشردين والفارين منم البولسي الاستعماري سنة 1952 بالجزائر العاصمة، واتصلوا بالسادة بوضياف، وديدوش، وبن امهيدي. وقد كان بوضياف وقتذاك ينشط في اطار الحزب رغم انه كان ملاحقا من قبل البوليس الفرنسي. وكان دوره تنظيما في الحزب، بحيث كان يحلل التقارير الواردة من الفاعدة النضالية.

ونظرا لتجميد مهام إطارات المنظمة العسكرية، فقد كان هذا الشكل يطرح بإلحاح على القيادة الحزبية التي كانت تواوغهم بحيث يقال لهم مرة أن يذهبوا إلى القاهرة للالتحاق بالكلية العسكرية ومرة يقال لهم يمكن أن يرسلهم إلى فرنسا لتولي المسؤولية هناك. وحدث هذا فعلا بالنسبة للبعض، بينما عين عدد من المسؤولين في مناصب رؤساء دوائر حزبية، من بينهم: بوالصوف عبد الحفيظ، بن عبد المالك رمضان، مشاطي محمد، شيهاني بشير، رابح بيطاط، ديدوش مراد، بن امهيدي العربي، غراس عبد الرحمان، وحبشي عبد السلام.

وكانت التقادير التي يقدمها أولئك المسؤولون إلى الحزب اعتمادا على اتصالاتهم بالمناضلين تشير إلى أن الشعب الجزائري مستعدا وجاهزا للكفاح المسلح، غير ان الحزب كان يعتبر ذلك مغامرة، وكان جزاؤهم الإقصاء من الدوائر الحزبية، وتوجيههم إلى منطقة وهران، وفي هذه الأخيرة أسندت مسؤولية المناطق على المجموعة المذكورة.

الحزب يعيد تشكيل المنظمة العسكرية تحت إسم "البركة"

كان المؤتمر الثاني لحزب حركة الانتصار، الذي انعقد في شهر أفريل من سنة 1953 فرصة لطرح إنشغالات الفاعدة النضالية بخصوص القضايا المصرية للحزب و البلاد، حيث أخذت المنضمة العسكرية، ومصير المنخرطين منها حيزا كبيرا من النقاش في غياب المعنيين بالأمر، إذ لم يدع على حضور المؤتمر الأعضاء السابقون في المنظمى العسكرية، وقد توصل المؤتمرون إلى اتخاذ جملة من القرارات من بينها القرار الخاص بإعادة تشكيل المنظمة العسكرية في أقرب مقت ممكن. وأطلقوا عليها اسم "البركة" تمنيا وتبركا بها .

غير ان أعضاء المنظمة العسكرية قد كثفوا من نشاطاتهم بعد المؤتمر بحيث انتقلوا إلى مرحلة التحضرات الخاصة بايجاد مخزون القتابل و المتفجرات في منطقة الاوراس، وجمع المواد الأولية في جهات مختلفة من الوطن. وأثناء ذلك بدأت الصعوبات المالية تستد مع ارتفاع المصاريق اللازمة للإعداد. فقرر محمد بوضياف، وديدوش مراد. الاستقرار بفرنسا لتنظيم جمع الأموال من الجالية الجزائرية بالتعاون مع المناضلين المتواجدين في صفوف الحزب هناك.

سافر بوضياف وديدوش إلى فرنسا  وتركا بقية زملائهم يقومون بمهمة أساسية هي صنع الكمية الكافية من القنابل وتوزيعها على مختلف جهات الوطن استعدادا لجميع الاحتمالات. وتمكن مصطفى بن بولعيد من إنجاز ما أوكل إليه من المهام في الأوراس، وفد انفجر عدد من القنابل التي صنعها مصطفى بن بولعيد في باتنة،كما ورد في صفيحة "لاديبيش"، الصادرة بفسنطينة بتاريخ 22 جويلية 1953، تحت عنوان، باتنة: سلسلة من الانفجارات.

وخلال تلك التحضيرات ذات الأهمية برزت الخلافات في مستوى القيادة السياسية من المكتب السياسي و اللجنة المركزية0 وبين أعضاء المكتب السياسي أنفسهم، وقد تعرض مناضلوا الحزب تنيجة هذه الخلافات إلى الضغوطات من الطرفين، وتفرقت تنيجة ذلك كلمة الحزب.

اعضاء المنظمة العسكرية يتخذون موقفا حياديا من الخلافات

بدأت الخلافات بين زعيم الحزب السيد مصالي الحاج، وأعضاء اللجنة المركزية بسبب اعتراض هذه الأخيرة على منح زعيم الحزب صلاحيات خاصة تتمثل في منحه الثقة المطلقة، حيث بلغ هذا الخلاف ذورته سنة 1953 عندما لجأ زعيم الحزب إلى حل اللجنة المركطزية و رفض أعضاؤها هذا القرار.

لم تبق الخلافات في سنة 1954، وتسببت في انقسام الحزب إلى تيارين: تيار اللجنة المركطزية أو "المركزين" الذي كانت له وجهة نظرة في سياسة الحزب وفي زعامة مصالي الحاج للحزب، وتيار الحركة الوطنية او "المصاليين"، الذي كانت له هو الآخر وجهة نظر في سياسة الحزب وفي أعضاء اللجنة المركزية إلى درجة اتهامهم بالإنحراف والإنتهازية.

وعلى الرغم من القساوة الشديدة، التي عاملت بها القيادة الحزبية أعضاء المنضمة العسكرية بسبب تحسمهم للكفاح المسلح. فان أعضاء المنظمة لم يقفوا موقف المتفرج تجاه الأزمة الخطيرة، التي أصبح يعيشها الحزب، فقد حاول بعض أعضاء المنظمة من إصلاح ما أفسدته إغراءات الكرسي، واقناع الجميع بأن الهدف الأسمى، الذي ضمن من أجله خيرات أبناء الشعب الجزائري هو استرجاع السيادة المغتصبة عن طريق الكفاح المسلح غير أن طاولات التب قام بها اعضاء المنظمة قد  بائت بالفشل، وتوسعت الخلافات، فشملت الفاعدة النضالية، بحيث أصبحت مجموعة تدعم كتلة مصالي وجماعته. وأخرى تدعم كتلة اللجنة المركزية، كما اتهم  جماعة مصالي أعضاء المنظمة العسكرية بانتمائهم إلى اللجنة المركزية بسبب اتصالاتهم معها في السابق، عندما كان بعضهم رؤساء دوائر صمن هياكل للحزب. ومع ذلك فان أعضاء المنظمة فد فظلوا البناء على الحياد. لم ييأس أعضاء المنظمة العسكرية في إعادة المياه إلى مجاريها.

في صفوف الحزب، فواصلوا مساعيهم الحميدة من أجل لم الشمل، ومن أجل الوصول إلى عمل جملعي حزبي متكامل يهدف بالدرجة الأولى إلى مواصلة التحضيرات للثورة، وتعبئة الشعب لخوض الكفاح المسلح، وفي الوقت نفسه كانت الاتصالات مستمرة فيما بين أعضاء المنظمة العسكرية.

وقد حدث في  هذا الاطار اتصال بين محمد بوضياف وديدوش مراد، وزيغزد يوسف، واتفق الثلاثة على أن يستمر النظام العسكري، وأن توضع خريطة لكل الشرق الجزائري بداية يضم كل المراكز الحساسة على أن تحدد التقاط التي يمكن أن تندلع من الثورة في يوم ما.

وانطلاقا من ذلك بدأ الشمال القسنطيني يطبق الأنفاق المذكور عمليا. من ذلك تكليف السيد باجي مختار بدراسة نواحي سوق أهراس وتكوين مناضلين يكونون على استعداد في كل وقت للقيام بعمل عسكري وقد أطلق في تلك الفترة على الفارين من السلطات الاستعمارية مصطلح "مشردين" . وربما كان هذا المصطلح يعني الثوار الوطنين، الذين لم يخضعوا لأوامر الحزب بتسليم أنفسهم للإستعمار الفرنسي، وقد كان السيد محمد بوضياف هو المسؤول عن الاتصال بالنسبة للشرق الجزائري، ومنطقة الأوراس تحت إشارف مصطفى بن بولعيد.

وعندما تضايق الحزب من استمرار نشاطات أعضاء المنظمة العسكرية عادت فكرة إرسالهم إلى الخحارج إلى الأذهان من جديد. وشرع الحزب بالفعل في ارسال بعضهم إلى فرنسا على أن يلتحق البقية بهم عتدما تنهي إجراءات الذهاب. وكان من بين الذين أرسلوا إلى هناك السادة، محمد بوضياف، ديدوش مراد، حبشي، ومشاطي. كماكان العربي بن مهيدي ورابح بيطاط على أهبة الاستعداد للالتحاق بفرنسا.

ولسبب ما لم يطق بوضياف وديدوش المكوث بفرنسا، حيث عاد إلى الوطن، وأعيد على إثر ذلك تشكيل قيادة المنظمة العسكرية من جديد، وشرع في الاتصال بالمناضلين الذين كانوا ينتمون إلى المنظمة العسكرية.

Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعما ر.صالح مختاري/ ظهور المنظمة العسكرية السر

ظهور المنظمة العسكرية السريةOS

 

عندما برز حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في الساحة الوطنية السياسية، والذي كان يحمل نفس المبادئ وأهداف حزب الشعب الجزائري استطاع ان يستقطب جمهورا واسعا من مختلف فئات المواطنين. غير انه كان يشعر بضرورة ايجاد هيئة تحضر للكفاح المسلح. وانطلاقا من هذه الرغبة المسلحة شرع التيار الثوري في حزب حركة الانتصار يدعو في أواخر عام 1946 إلى ايجاد هيئة ثورية تعمل على التوعية وتعبئة الشعب الجزائري لخوض غمار الكفاح المسلح.

وقد تدعم هذا الاتجاه تنيجة المشاركة حزب حركة تعني العودة الى الكفاح في إطار الشرعية، وبالتالي التخلي عن فكرة الكفاح المسلح الذي شرع في وضع اسسه الأولى سنة 1939 عندما حل حزب الشعب الجزائري، مما جعل قادة حزب حركة الانتصار يواجهون تيار قوي عازم كل العزم على مواصلة الخط الثوري الذي انتهجه منذ عدة سنوات وبذلك وجدوا أنفسهم مجبرين على تبني الفكرة وتنظيمها، كما برز ذلك في الاجتماع الاول لإطارات الحزب، الذي انعقد ببوزريعة بالجزائر العاصمة في شهر ديسمبر من سنة 1946.

وحتى يتسنى طرح تلك الاقتراحات المتمثلة في تأسس هيئة ثورية للنقاش الواسع في اطار نظامي. من أجل وضع حد لتلك الانتقادات اللاذعة السالفة الذكر تقرر عقد مؤتمر الأول للحزب من 15 الى 16 فيفري من سنة 1947 بمشاركة اطارات الحزب. ولضرورة أمنية انعقد المؤتمر يوم 15 فيفري ببوزريعة بالجزائر. ويوم 16 منه ببلكور بالجزائر العاصمة أيضا. وكان من بين الذين شاركوا في المؤتمر السادة:

ميصالي الحاج، الأحول حسين، بن يوسف بن خدة، خيضر محمد، مزغنة أحمد، محمد امين دباغين، مسعود بوقادوم، حسين آيت أحمد، بلوزداد محمد، عمرا وصديق، سيد علي عبد الحميد، عبد الرحمان طالب، حمو بوتليليس هواري سويح، محمد يوسفي، مبارك فيلالي، والي بناني، لبراهيم بغيزة شوقي مصطفاي، سعيد عمراني احمد بودة، حسين عسلة، عبد المالك تمام، محمد ممشاوي وحاج محمد شرشالي.

وكان القرار الذي تمخض عنه المؤتمر بخصوص ايجاد هيئة تحضر للكفاح المسلح يتمثل فيما يلي:

1-إبقاء على حزب الشعب الجزائري، في اطاره السري القديم للعمل على توسيع القاعدة الحزبية، ونشر الفكرة النضالية الاستقلالية.

2-متابعة  حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، بمظهرها الشرعي واطارها القانوني، لمساعيها ونشاطها في أوساط الرسمية والشعبية لنوعية الجماهير بصفة عامة، وللتخفيف من المعاناة التي يعيشها المواطن يوميا لدى الإدارة الاستعمارية.

3-انشاء منضمة شبه عسكرية سرية، التي عرفت فيما بعد (بالمنضمة الخاصة)  او (المنضمة السرية) (O.S) تتولى الاعداد والتعبئة للعمل الثوري. وفي اطار تطبيق القرار السالف الذكر، أنشأ الحزب سنة 1947 (لمنضمة العسكرية)، التي كان يطلق عليها بالفرنسية (المنضمة السرية الشبه العسكرية). وقد عين السيد محمد بلوزداد، الذي كان يعرف باسم سي مسعود رئيسا للمنظمة العسكرية السرية، والذي كان يعد من خيرة الشباب المناضلين ذكاء وتكوينا، وحيوية، واخلاصا، حيث سبق له أن تولى مسؤولية الشبيبة الحزب البلكور بالجزائر  العاصمة، ومسؤولية الحزب في عمالة قسنطينية. إذا كان على الرغم من صغر سنه عضوا في المكتب السياسي للحزب. وبذلك منحه الحزب الثقة المطلقة في عملية تشكيل التنظيم العسكري السري، واختيار العناصر الوطنية المؤهلة للنشاط الثوري.

هيكلة المنظمة العسكرية السرية

شرع محمد بلوزداد على اثر تعيينه رئيسا للمنضمة العسكرية السرية في مباشرة مهامه، بحيث ركز في بداية الأمر على وضع الهيكلة العامة للمنظمة. وقبل الشروع في العملية حدد مبدأين اثنين يتمثلان في التالي :

1-اختيار أحسن المناضلين في الحزب لتجنيدهم في المنظمة.

2-الفصل التام بين المنضمة والتنظيمات الأخرى، التابعة للحزب، المحافظة على السرية التامة.

وكان أول شيء قام به محمد بلوزداد هو تنصير أركان الحرب، المتكون من السادة :

-  حسين آيت أحمد،                           رئيس هيئة الأركان        

- باحاج الجيلالي عبد القادر،                  المدرب العام

- محمد بوضياف،                             مسؤول عمالة قسنطينية

- جيلالي رقيمي،                             مسؤول عمالة الجزائر

- محمد متروك،                               مسؤول الشلف والظهرة حاليا.

- عمار ولد حمودة،                            مسؤول منطقة القبائل

- أحمد بن بلة،                                مسؤول عاملة وهران

- محمد بوسفي،                              مسؤول شبكات الاستعلامات والاتصالات.

 

وبعد ذلك وضع محمد بلوزداد الهيكلة العامة للمنظمة، والتي كانت كالتالي :
1-قيادة الأركان، وتتكون من منسق رئيس الأركان، ومدرب عسكري مفتش.
2-مسؤولون على مستوى العمالات (الولايات).
3-الاتصال بالمكتب السياسي يتم من خلال شخص واحد هو لحول حسين ومحمد بلوزداد هو الذي يتولى عملية التنسيق.
4-تقسيم العملات إلى مناطق :
أ-عمالة الجزائر قسمت إلى خمسة مناطق.
       ب-عمالة قسنطينة قسمت إلى أربعة مناطق.

      ج-عمالة وهران منطقة واحدة.

5-تأسيس مصلحة عامة على مستوى قيادة أركان المنظمة تضم عدة أقسام متخصصة وهي:

أ-قسم المتفجرات، تتمثل مهمته في صنع القنابل المتفجرة المحرقة والهجومية وكذلك دراسة تقنيات تخريب الجسور، وقد أسند الإشراف على هذا القسم إلى السيد بلحاج جيلالي.

ب-قسم الإشارة المختص في الراديو والكهرباء، كون هذا القسم ماروك ثم أسند الإشراف عليه الى عسلة رمضان .

ج-قسم التواطؤ، تتمثل مهمته في ايجاد مخابئ للمخيفين أي المناضلين الذين تبحث عنهم السلطات الاستعمارية، وكذلك إعداد مخابئ للأسلحة والذخيرة.

د-شبكة الاتصالات، تتمثل مهمتها في شراء أجهزة الاتصالات والتدرب على استعمالها، ويشرف عليها اختصاصيون، في حدود الإمكان.

هـ-شبكة الاتصالات تتمثل مهمتها في التعرف والإطلاع على تنضيمات وتحركات الأجهزة العسكرية والإدارية والبوليسية والاستعمارية، وكذلك تعاقب الخونة الذين يعتمد عليهم جهاز المخابرات الاستعمارية في مختلف الظروف من أجل معرفة كل الأفكار، والتحركات المشبوهة في الأوساط الوطنية حتى يتسنى له القضاء عليها في المهد.

6-التنظيم العسكري

كان التنظيم العسكري يخضع الهرمي المتمثل فيما يلي :

أ-نصف المجموعة، تمثل الوحدة القاعدية للنظام، وتضم ثلاث أشخاص أحدهم الرئيس.

ب-المجموعة، تتكون من ثلاثة أنصاف مجموعات وقائد المجموعة.

ج-الفاصلة (جهة في المدن)، تتكون من واحدة أو عدة مجموعات. وقد كان هناك فاصل بين مختلف الوحدات بحيث لا تعرف أي وحدة ما تقوم بها الأخرى، ففي المجموعة الواحدة لا تعرف نصف المجموعة ما تقوم به نصف المجموعة الأخرى.

7-العلاقة بين الحزب :

أعطت الاستقلالية التامة للمنظمة العسكرية عن الحزب سواء في الشؤون المالية أو الإدارية أو غيرها. وهذا حفاظا على السير الطبيعي للنشاطات الرسمية للحزب، حيث أن السلطات الاستعمارية كانت تتابع باسمرار تلك النشاطات، وتخضع للتحليل، والتقييم، علها تكشف من خلال محتوياتها فكرة تستهدف النيل من سيادتها. فالسلطات الاستعمارية كانت تعتبر على الدوام حزب الشعب الجزائري ومن بعده حزب حركة الانتصار مصدر الخطر رقم واحد الذي يهدد سيادتها على التراب الجزائري.

شروط الانخراط في المنظمة العسكرية

لقد تمكنت المنظمة من خلال الجدية والصرامة في اختيار المنخرطين أن تحدث في فترة قصيرة داخل هياكلها حوالي ألف منا ظل من مناظلي حزب الشعب الجزائري القدامى، الذاتي لم يكونوا معروفين على الصعيد السياسي، والذين تم اختيارهم وفق شرطين أساسين :

أ-اختيار العناصر الشجاعة المخلصة، القادرة على التجند والانقطاع عن الحياة الحزبية السياسية، وعن الحياة العامة للتفرغ الكامل للنشاط الثوري.

ب-القبول النهائي المجند كان يتم وفق مقاييس متشددة، وبعد أداء امتحانات صعبة، وقضاء القسم، ألا يغادر المنظمة كما يريد وإذا حدث وتخلى عن مهامه التي جند من اجلها، فإنه يعد هاربا، وبالتالي يخضع للعقوبة، التي تقررها المنظمة في هذا الشأن، كما يلتزم المجند بأن يقدم جميع إمكاناته لخدمة القضية الوطنية التي ضحى بحياته من أجلها.

وقد أصبح طموح كل منا ظل شاب هو الوصول و الانخراط  في صفوف المنظمة العسكرية السرية حتى يكون ضمن الطليعة الثورية، الذي تشعل فتيل الثورة التحريرية.

التكوين العسكري

كان التكوين العسكري الذي يتلقاه المجندون في المنظمة العسكرية يشبه إلى حد بعيد التكوين العسكري، الذي يتلقاه أي جندي يلتحق بالجيش النظامي في ذلك الوقت، حيث أن الذين كانوا يشرفون على التدريب معظمهم عملوا بالجيش النظامي في ذلك الوقت، حيث أن الذين كانوا يشرفون على التدريب معظمهم عملوا بالجيش الفرنسي، أضف إلى ذلك أن العديد من المجندين الجزائريين شاركوا في حرب الفيتنام، السيئ الذي مكنهم من اكتساب فنون الحرب الكلاسيكية حرب العصابات بحيث كان التكوين العسكري يشتمل على الأمور التالية:

1-تدريب المجندين على استعمال الأسلحة (فك و تركيب وكيفية الاستعمال)، وتزويدهم بمعلومات عسكرية نظرية وتطبيقية، وخاصة في ميدان حرب العصابات.

2-تحديد المناطق، الطي يقع فيها التدريب، حيث شملت الجبال، الغابات، الوديان، الشعاب والصحاري. لأن حرب العصابات تتطلب معرفة طبيعة الميدان.

3-غرس روح النظام في المجندين بطريقة صارمة، وقد ساعد على ترسيخها ما كان يتمتع به المجندون من استعداد النفس  من روح معنوية عالية لدى كل واحد منهم.

وقد كانت المنظمة العسكرية صارمة لتطبيق مبدأ السرية إلى درجة أن التدريبات، كان يشرف عليها مدربون مقنعون بحيث لا تطهر إلا أعينهم، ولا تعرف أسمائهم الحقيقية. وإنما كانوا يعرفون بأسماء مستعارة، استمرت هذه الطريقة طوال الثورة التحريرية، بل نجد حتى القادة، الذين كانوا يراقبون التدريبات هنا وهناك يؤدون مهامهم في اطار السرية، كان يستعملون بدورهم الأقنعة.

التكوين العقائدي

كان محتوى التكوين العقائدي، الذي يتلقه المجندون في المنظمة العسكرية السرية يرتكز على شيئين اثنين :

1-الإسلام:فقد كانت المنظمة العسكرية تطبق مبادئ إسلامية بحيث كانت الأمور محرمة دينيا.

محرمة أيضا ممارستها داخل المنظمة مثل: الخمر، القمار، الزنى والسرقة الخ.إذ ان الإسلام كان يخضع له الجميع، متمكن من قلوب الجميع، بحيث نجد حتى الذين لا يؤدون الصلوات الخمس كانوا يؤمنون بقوله تعالى:

"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" صدق الله العظيم

وقول أيضا: "وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين "          

وكان من جملة الدروس، التي تقدم لمناضلين المنظمة العسكرية في شكل محاضرات، تسليط الأضواء على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومراحل كفاحه التي كانت تقسم ومراحل كفاحه التي كانت تقسم إلى ثلاثة مراحل : مرحلة تعريف الإسلام.

مرحلة التنظيم ومرحلة العمل

إن الإسلام هو الذي كان يغذي فكرة الكفاح المسلح ويرفع من معنويات المناضلين، بل الإسلام هو الذي جعل الفئة القليلة من المجاهدين إبان الثورة التحريرية تتحدى القوات الاستعمارية والمدعومة بإمكانيات الحلف الأطلسي.

2-التاريخ: كانت الدروس، الذي يتلقاها المناضلون في هذا الجانب، تبرز المراحل التاريخية التي مرت بها الجزائر، وخاصة تاريخ المقاومة الوطنية. ابتداء من المقاومة الوفد البيزنطيين إلى مقاومة الاستعمار الفرنسي بقيادة الأمير عبد القادر،  الشيخ بوعمامة،  والحداد والمقراني ولالا فاطمة نسومر.

جمع السلاح والتدريب عليه

أ-جمع السلاح: فكما سبق أن أشرنا شرع الجناح الثوري في حزب الشعب الجزائري في جمع السلاح منذ الحرب العالمي الثانية لأنه كان مقتنعا أن توفير السلاح من أولويات التحضير للكفاح المسلح.

وقد تبنت هذه العملية المنظمة العسكرية ,و حاولت أن تلفت انتباه المسؤولين إلى هذه القضية الهامة حيث ورد في القضية تقرير المقدم في الاجتماع حزب حركة الانتصار ما يلي:

"ينقصنا السلاح والمال لا السلاح لنا ولا المال ونحن نواجه قوة عسكرية تتوفر على الأسلحة الحديثة لقواتها البرية والجوية والبحرية، وتتكون من جيش يتمتع بتقاليده وتجاربه" وقد عملت المنظمة العسكرية في البداية على تجميع الأسلحة التي جمعت خلال الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تنتقل من مخبأ إلى مخبأ. ثم عملت المنظمة جاهدة على تعزيز تلك الكميات المتواضعة بالكميات الأخرى، حيث أصبح مناظلوها ينتقلون داخل الوطن وخارجه عبر الحدود الليبية والتونسية و المغربية بحثا على الأسلحة قصد جمعها وشرائها، وكان ثمن السلاح يختلف حسب الجهات، بحيث كان يتراوح ثمنه في مناطق الحدود السالفة الذكر ما بين 20 إلى 25 ألف فرنك قديم للرشاش ستان مثلا، كما ثمن الخرطوشة الواحدة يتراوح ما بين 2 إلى 3 فرنك قديم.

وعلى الرغم من ارتفاع ثمن السلاح مقارنة بذلك الوقت فقد كان الاحتياج الشديد إليه يحفز مناضلون المنضمة  العسكرية على اقتنائه مهما ارتفع ثمنه، خاصة وأن أوامر هذه الأخيرة تقضي بجمع الأسلحة، وشرائها بأي ثمن كان، كانت الخطة التي اتبعتها المنظمة في عملية جمع السلاح وتخزينه هي ترك الأسلحة في المنطقة التي تحصل عليها منها، فإذا كانت قد حصلت عليها من الحدود الشرقية  فإنها تتركها في الجهة الشرقية، ونفس السيئ بالنسبة للحدود الغربية. وهذا بدون شك يدخل في إطار الاستراتيجية تعميم الثورة المرتقبة على الوطن كله.

 وبذلك استطاعت المنضمة العسكرية أن تحصل على أسلحة مختلفة البنادق من نوع قارة أمريكية، وموسكوتو الفرنسية و (PM 28) الفرنسية أيضا. غير أنها كانت قليلة، كما أن بعضها كان غير صالح للاستعمال، لأنها مصنوعة من الحديد فقط. وقد أعدت المنظمة العسكرية مطامر 34، لإخفاء الأسلحة والذخيرة الحربية كما أنشأت في الوقت نفسه مراكز لصنع الأسلحة والذخيرة الحربية والمتفجرات في عدة مراكز من أنحاء الوطن. وتم تكوين إطارات خاصة لإشراف على هذه المراكز وتسييرها.

 

ب-التدريب على استعمال السلاح: كانت التدريبات على السلاح تجري في أماكن غير معروفة، وبعيدة عن أنظار العدو، وعيونه. فقد كانت تجري بالقرب من الواد أو داخل غابة كثيفة إلخ. وهذا أقصد التموية على السلطات الاستعمارية. بحيث عندما تسمع الطلقات النارية تعتبرها طلقات صيد وليس طلقات نارية.

وكانت التدريبات تركز على الخصوص كيفية فك أجزاء السلاح وتركيبه وكذلك التدريبات حول عوارض الرمي. وقد كان البارود، الذي بقى مخزونا مدة طويلة  لا ينطلق بسبب البلل والرطوبة.

تعميم النظام الثوري على القطر الجزائري

عملت المنظمة العسكرية على تعميم مراكزها عبر التراب الوطني بحيث أصبحت منتشرة في كل القطر الجزائري تقريبا. نتيجة إيجاد فروع لها في مختلف جهات الوطن وهذا حتى يتسنى لها أن تضمن تجنيدا وتدريبا لعدد كبير من المناضلين مستعدين لخوض غمار الكفاح المسلح من ذلك أصدرت المنظمة أمرا يقضي بتأسيس فرعا لها في الأوراس سنة 1947 بقيادة السيد مصطفى بن بولعيد، الذي عمل بدوره على تأسيس الخلايا في المنطقة اقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم في المساجد حيث أقسم المجندون على المصحف الشريف وعلى ضوء الشموع بأن لا يخون، لا يتراجعوا، ولا يكشفوا سرا حتى الموت.

وقد شرعت الخلايا السالقة الذكر والبالغ مجموع مناضليها عشرين مناضلا في التدريبات العسكرية الخاصة بحرب العصابات تحت اشراف مصطفى بن بولعيد. كما كانت تقوم بعملية إحصاء مراكز الشرطة، وأماكن تواجدها وأسماء الخونة، وإطلاع المسؤولين على كل ذلك حتى يتخذو الإجراؤات الضرورية في الوقت المناسب.

وهكذا صهرت المنظمة العسكرية منذ ظهورها في الساحة الوطنية على تكوين مناضليها عسكريا وعقائديا في مختلف مناطق القطر الجزائلري بهدف اعدادهم أعدادا جيدا، حيث يقول المجاهد لخضر بن طوبال "عندما كنا في الحركة العسكرية...راجعنا دروسنا الأدبية والعسكرية عدة مرات وحفظناها وتدربنا نظريا وتطبيقا، حتى أوائك الذين لم يكونوا يقرؤون حفظوا دروسهم.

تقييم نشاط المنظمة العسكرية

ما إن كان سنة 1948 توشك على نهايتها حتى أخضعت النشاكات النحضيرية المكشفة للثورة، لتي سجلتها المنظمة العسكرية إلى عملية تقييم من قبل حزب حركة الانتصار، بحيث أخذت الأولوية في اهتمامات الحزب.

وقد أبرز التقرير، الذي قدمه مسؤول المنظمة العسكرية إلى اللجنة المركزية بحزب حركة الانتصار الجوانب الأساسية والضرورية لاستنكمال التحضيرات للثورة، حيث ورد في مستهله:

"المنظمة هي منظمة النخبة بعددها، الذي يجب أن يكون مح0دودا بسبب طابعها السري جدا، ويجب عليها بالدرجة الأولى تكوين إطارات معركة التحري"

ويوضح التقرير شكل الكفاح الذي سوف يخوضه الشعب الجزائري من أجل تحرير الوطن بأكمله:

الاستعمار الفرنسي فيما يلي

أ‌-     كفاح التحرير لا يقتصر على انتفاصة جماهيرية              

ب‌-كفاح التحريبر لا يقتصر على تعميم الغرهاب

ج- كفاح التحرير لا يقتصر على تكوين منطقة محررة، وإنم الكفاح التحرير حربا ثورية حقيقية.

ويؤكد التقرير بأن الثورة ضرورية وأساسية لأن عهود "الاندماج" و "الاصلاح" و "الشرعية" و" الانتخابات" دفنت نهائيا، و"الاصلاح" انتهى بإفلاس فعلي، وبالأهمية الخاصة التي أوجدها الاستعمار. ثم يبين التقرير مدى أهمية الجزائر بالنسبة لفرنسا، التي بدون شك سوف تستعمل كا لمكانيتها المادية والبشرية من أجل استمرار هيمنتها عليها حيث يقول:

"نحن نعلم ومنذ زمن قلنا بأن بلدنا يشكل حجر الزاوية للامبريالية الفرنسية، وفرنسا لا ييتازل عنها، دون أن تستعمل كل الوسائل الهامة التي في حوزتها".

ويتساءل التقرير بناء  على ما سبق ذكره، عن إمكانيات الشعب الجزائري، التي سوف يوضفها في معركة التحرير؟

ولم يترك التقرير هذا السؤال، الذي كان يشغل أذهان معظم الجزائريين ويضع علامة استفهام منذ بداية الإحتلال الفرنسي سنة 1830 خاصة بعد فشل الانتفاضات المسلحة المحدودة، التي كانت تظهر من حين إلى آخر في جهة من جهات الوطن. حيث حدد الإمكانيات التي يمكن أن يواجه بها قوات الاستعمار الفرنسي بقوله:

"إن قوتنا فوة معنوية تتمثل فب روح المقاومة، وفي الإيمان للوطن وفي الثقافي، والتصميم، الذي يجب أن يهز كا الجزائريين، ومع ذلك فان الحرب التحجريرية هي الشكل الوحيد للكفاح الملائم لأوضاع بلادنا".

ولم يفت التقرير أن يتعرض للمساعي المتواصلة، التي بذاتها المنضمة من أجل التنسيق مع الأشقاء التونسيين والمغاربة لهدف ايجاد صيغة موحدة، تمكن الأقطار الثلاثة من خوض حرب تحريرية مشتركة تكون بمثابة اللبنة الأولى على طريق وحدة المغرب العربي حيث يقول التقرير عن ذلك:

"المسؤولية تعود إلينا للشروع في عملية التوحيد (توحيد المغرب العربي) أي تونس والمغرب لمساعدتهما علة تنظيم هياكل مشابهة لهياكلنا".

ويضيف التقرير:"الكفاح المشترك ليس فقط ضمانا للانتصارات على القوات الاستعمارية، بل هو كذلك ضمان لوحدة المغرب العربي. إذا كان في خدمة الكفاح التحريري تنهارالحدود المصطنعة التي تجزأ هذه الوحدة".

كما لم يفت التقرير بأن يلفت انتباه المسؤولين في اللجنة المركزية لحزب حركة الانتصار بأن المجندين في المنظمة العسكرية قد استوعبوا مناهج التدريبات المقررة. وأنهم في انتظار الأوامر للشروع في تفجير الثورة،مؤكدا بأن انتظارهم الطويل سوف يسبب لهم الاحباط الشديد، واليأس  القاتلة، مستشهدا ببعض الأمثلة المئخودة من أقوال المناضلين:

"لا تستدعونا لصناديق الانتخابات"، "أعطونا سلاحا"، "لا نريد أن نجازف بدون فائدة"، "نريد أن تموت مرة واحدة" الخ.

وقد كان جوانب اللجنة المركزية أن الوقت غير مناسب لاندلاع الثورة المنسلحة ولكنها أخذت فرارا لتدعيم المنظمة بالرجال والمال والسلاح. رغم عجز الصندوق المالي للحزب عن تلبية احتياجات المنظمة المختلفة.

المنظمة تنفذ عمليات ثورية جريئة

ما إن حلت سنة 1948 حتى كانت المنظمة العسكرية على أتم الاستعداد للقيام  بعمليات ثورية محدودة في اعنتطار  اندلاع الثورة المسلحة نذكر من ذلك العمليتين التاليتين:

1-هجوم مجموعة من

Voir les commentaires

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار الفرنسي /المؤلف صالح مختاري

الهجومات. فلم تكن الجزائر هي التي سعت من اجل عقد صلح جديد مع فرنسا بعد قيام هاته الأخيرة بخرق معاهدة السلم المئوية الاولى سنة 1684، وإنما كانت هاته هي التي بدلت المساعي المتتالية وبكيفية ملحة لابرام صلح جديد بين الطرفين.

كما تبنت الدبلوماسية الجزائرية خلال هذا الصراع مع لويس الرابع عشر مبدا أخر والمتمثل في نبد استعمال القوة في العلاقات الدولية وعدم الرضوخ للقوة مهما كلف ذلك من التضحيات. ففي المراسلات الكثيرة التي تبادلها المسؤولون الجزائريون مع الحكام الفرنسيين خلال هذه الفترة اكدوا فيها ولمرات عديدة ان "رسالة مهذبة من الملك أو وزير البحرية يكون مفعولها أقوى مما يحدثه جيش جرار أو أسطول كبير".

لقد جابهة الدبلوماسية الجزائرية خلال الأزمة مع فرنسا قضية كان عليها أن توضحها وتزيل عنها كل الثبات والمتمثلة في كونها تعاقدت وتتعاقد دائما لمصلحة الرعايا الجزائرين دون سواهم. لقد ظهرت هذه المسالة عندما تعمدت فرنسا تظليل المسؤولين بخصوص قضية  اطلاق سراح الأسرى. فبمقتضى معاهدة سنة 1684 تعاهدت فرنسا بإطلاق سراح عساكر الأوجاق و جنود البحرية الذين سيتم تبادلهم مع الأسرى الفرنسيين بالجزائر. وبدل اطلاق سراح هؤلاء قامت فرنسا باطلاق سراح الاسرى المسلمين من البلدان الأخرى والذين اختارتهم من بين المسنين والمعطوبين.

لقد وجد المسؤولون الجزائريون أنفسهم امام وضعية جد حرجة عندما ارسى هؤلاء بمرسى العاصمة. هل يقبلون هذه الصفقة المغشوشة ام يرفضونها ؟ ولقد قرروا في النهاية استقبال هؤلاء الأسرى في الوقت الذي صمموا فيه على فك الأغلال الأسرى الجزائريين بالاستمرار بالمطالبة بهم وبالفعل لم تهدء العلاقات بين البلدين وتستقر إلا بعد ان سوية هذه المسألة نهائيا سنة 1692.

لقد أظهرت الدبلوماسية الجزائرية من جهة اخرى، حرصا دائما على نبد التكتلات والتمسك بمبدا الحياد في الصراعات الاوروبية ولقد حاولت فرنسا مرارا عديدة وسعت بكل ما اوتيت من  اساليب الاقناع والتاثير بجر الجزائر ورائها في الصراعات الأوروبية ولكن بدون جدوى. وآخر مسعى بدلته في هذا الاتجاه على عهد لويس الرابع عشر وايفادها لبعثة كبيرة في عام 1702، لغرض اقناع المسؤولين الجزائريين بالوقوف إلى جانبها في الحرب المرتقبة التي ستشتهر في تاريخ أوروبا باسم حرب الوراثة الاسبانية.

وعند نهاية القرن السابع عشر سجلت الدبلوماسية الجزائرية موقفا على درجة كبيرة من الأهمية وبعد النظر والذي يتمثل في اعتبار منطقة المغرب منطقة متكاملة سياسيا و وامنيا لا يحق لطرف أوروبي أي كان أن يتدخل في شؤونها ويقحم نفسه في امورها، لقد عبرت عن هذا الموقف على اثر اندلاع حرب اهلية في تونس والتي استغلها قنصل فرنسا في هاته البلاد ليتدخل لصالح طرف ضد الطرف الأخر بمده بالاسلحة وبعدد من المرتزقة من الفرنسيين المختصين في المدفعية. لقد نند الداي شعبان، في رسالة شديدة اللهجة بعث بها إلى لويس الرابع عشر، بهذا الموقف الفرنسي الذي اعتبره بمثابة اعلان حرب ضد الجزائر، وطالب بأن يكشف عن موقفه بكل صراحة فيما إذا كان يعتبر نفسه في حالة سلم ام في حالة حرب ضد الجزائر، وهو ما اضطر فرنسا إلى شجب موقف قنصلها واعتبار سلوكه عبارة عن مبادرة شخصية وليس موقف الحكومة.

خلال القرن الثامن عشر سعت الدبلوماسية الجزائرية إلى توسيع علاقاتها السلمية مع الدول الأوروبية خاصة تلك التي لها مصالح في المتوسط. لقد أبرمت معاهدة صلح مع السويد سنة 1729 ومع الدانمارك سنة 1746 ومع النمسا سنة 1748، ومع هاسبورق سنة 1751 والبندقية سنة 1763، لتتوجها بمعاهدة صلح مع اسبانيا والتي ابرمت في شهر جوان من سنة 1785. وهذه المعاهدة لها اهمية كبرى في كونها ستساهم بقسط كبير في اعادة الهدوء والاستقرار على ضفاف المتوسط بعد صراع استمر قرابة ثلاثة قرون والذي تسبب فيه ظهور الصليبية الاسبانية التي شكلت تهديدا خطيرا على بلدان المغرب منذ أواخر القرن الخامس عشر.

ففي اطار هذه التعاقدات المختلفة بلورت الدبلوماسية الجزائرية عددا من المبادئ التي عمدت إلى ترسيخها وتكريسها في علاقاتها المختلفة والتي منها : الوفاء بالعهد والتقيد بالالتزامات التي تعهدت بها، مهما كانت الظروف والتغيرات التي قد تطرأ على الحياة الدولية. فابلرغم مما كتبته الادبيات الصليبية وما سجلته حول عدم وفاء الجزائريين بتعهداتهم، فإن التقارير الدبلوماسية الموضوعية تؤكد دائما هذا الجانب الايجابي في سلوك دول المغرب البحرية ولدى الكيانات السلامية الأخرى والذي تعتبره من الثوابت التي ترتكز عليه دبلوماسيات هذه الدول في كل الظروف وفي جميع الفترات.

كما أبرزت هذه التعاقدات مبدءا اخر والذي يتمثل في كون الدول الاسلامية بوجه عام ودول المغرب البحرية بصفة خاصة تعتبر ان حالة السلم في منطقة المتوسط هي الحالة التي يجب أن تسود وأن تكون دائمة وليس العكس فالتعايش السلمي هي الوضعية العادية أما حالة الحرب فهي استثناء وحالة مؤقت يجب أن لا تستمر. ولقد تجسد هذا المبدا في كون المعاهدات التي ابرمتها الجزائر خلال هذا القرن    (18) وفي القرن الماضي ليست محددة بأجل بل هي معاهدات تكرس صلحا دائما وابديا، وعندها تحدد هناك أجالاً فهي اجال طويلة الأمد، كما هو الشأن بالنسبة للصلح المئوي مع فرنسا.

كما ابرزت هذه التعاقدات مبدء أخر والمتمثل في التعاون مع جميع الدول على قدم المساواة فليس هناك في منظور الدبلوماسية الجزائرية دولا كبرى ودولا متوسطة ودولا صغرى بل جميع الدول تتساوى عندها في المرتبة. وقد تعاملت مع كل الدول على هذا الاساس ويكفي من للتأكد من ذلك تصفح المعاهدات التي أبرمتها الجزائر مع فرنسا او هولندا ومع هامبورق مثلا، فالكل لها نفس الامتيازات والالتزامات سواء بالنسبة لوضعية قناصلها بالبلاد او بالنسبة للتعريفة الجمركية التي يدفعها رعايا هاته الدول من التجار أو بالنسبة للقضاء القنصلي وصلاحياته وغيرها من المسائل. وما يقال عن "الجزية" التي تدفعها الدول الصغيرة للجزائر، في هذه الفترة هو موضوع يحتاج في نظرنا إلى اعادة النظر وإلى دراسة جادة ومعمقة. فالمعاهدات التي ابرمتها الجزائر مع دول شمال اوروبا ومع هولندا أو البندقية لا تنص ولا تشير إلى هذه "الجزية" لا من قريب ولا من بعيد.

والهدايا القنصلية التي تدفعها جميع الدول التي لها علاقات مع الجزائر، في الأجال التي حددتها الاعراف والتقاليد منذ امل بعيد كانت الدولة الجزائرية تقدم في مقابل هذه الهدايا، هدايا من طرفها لهؤلاء القناصل ولاساطيل بلدانهم عندما ترسوا هاته في مناء الجزائر فهي ليست هدايا من طرف واحد. كما ابرزت الادبيات الصليبية ذلك وعمدت على ترسيخها في الأذهان وعلى مر الاجيال. فنحن لا زلنا نسمع ونقرأ حول هذا الموضوع اشياء لا تزال تحمل في طياتها تاثيرات هذه الأدبيات حول هذا الموضوع.

ويبدوا ان السبب الكامن وراء هذا التهجم هو كون دول شمال أوروبا وحتى بعض الدول المتوسطية مثل البندقية كانت قد تجاوزت في تعاقدها مع الجزائر الحضر البابوي المفروض على الدول الاسلامية عندما قبلت وتعهدت  بتصدير مواد وسلع مصدرة إلى الجزائر، وخاصة الأسلحة والاخشاب الصالحة لبناء السفن وغيرها من السلع ذات الطابع الاستراتيجي مقابل اعفاء هذه المواد من جميع الرسوم والتعريفة الجمركية. فهذا الالتزام هو الذي تسميه هذه الأدبيات "بالجزية" والموضوع كما قلنا يحتاج إلى اعادة النظر ومعالجة جديدة بمعزل عن هذه التأثيرات المتحيزة.

في هذه التعاقدات المختلفة التي ابرمتها الجزائر مع الدول الأوروبية خلال هذا القرن كرست فيها واتبثت بكل صراحة ووضوح مبدا التسامح الديني والاعتراف في ضرورة مراعاة الشرائع الاعراف وتقاليد الرعايا الاجانب المقيمين في البلاد. وهي بهذا المسلك تطبق مبدأ اسلاميا عريقا وراسخا في التقاليد الاسلامية مع أقلمته وتطويره حسب مقتضيات كل عصر فالقضاء القنصلي استمد اسسه من هذا المبدء الاسلامي الاصيل ولقد بالغت الجزائر في التصور الميثالي للعلاقات بين الأمم إلى درجة انها كرست مبدء حماية وتامين مصالح الرعايا الاجانب حتى في حالة نشوب حرب بينها وبين بلدانهم.

لقد سجل هذا المبدء في المعاهدات التي أبرمتها مع فرنسا في القرن الماضي وفي المعاهدة التي أبرمتها مع هامبورق (1751) وهناك مبدأ أثبتته وصارت عليه الدبلوماسية.

الجزائر في هذا القرن، والمتمثل في تعهدها بعدم مساعدتها لطرف يكون في حالة حرب مع الدولة التي تم التعاقد معها حتى هذا الطرف قريب جدا منها ومجاور لها. هذا المبدأ بين مستوى النضج الذي وصلته العلاقات الدولية في منظور الدبلوماسيات الجزائر والدبلوماسيات الاسلامية كلها بوجه عام والذي جسدته في علاقتها المختلفة بحيث تخرج هذه من اطارها التقليدي المحدود إلى مستوى أوسع يفتح الباب للتعايش السلمي بين مختلف الشعوب بقطع النظر عن معتقداتها ودياناتها، وهو تطور نوعي على جانب كبير من الأهمية سجلته الدول الاسلامية قبل ان تنضج الدول الاوروبية لتصل إلى هذا المستوى من التعامل في علاقاتها مع الكيانات الاسلامية، والوئام الأوروبي الذي تجسد على الساحة الحياة الدولية، بعد مؤتمر فينيا هو بمثابة ردة وتراجع نحو هذا المبدأ الكبير الذي اقرته الدول الاسلامية وتعاقدت على أساسه مع الاطراف الاوروبية خلال القرن الثامن عشر.

ويعتبر هذا المبدأ مع مبدأ الحياد في في الصراعات الاوروبية، الذي تبنته الجزائر منذ القرن السابع عشر، إحدى الدعائم الهامة التي سيسند عليها قانون دولي عادل في تطوره لصالح المجموعة الدولية في جميع مناطق العالم، لو لم تعمد الدول الاوروبية إلى هدم هذه الاسس واستبدالها بالقانون العام الاوروبي الذي فرضته على المجموعة الدولية خلال القرن التاسع عشر تحت اسم "القانون الدولي" لخدمة أهدافها التوسعية والتسليط مستوحية مبدأها الاساسي من قانون الغاب: "الحق للأقوى".

تميز الوضع الدولي للجزائر غداة مؤتمر فيينا (1815) بالتأزم الشديد بسبب الموقف العدائي لانجلترا ضدها، ويعود اصول هذا الموقف إلى فترة الثورة الفرنسية، عندما بذلت انجلترا كل ما في وسعها لجر الجزائر وروائها في حربها ضد فرنسا وهي الجهود التي باءت بالفشل الذريع فلا الاغراء ولا التهديد باستخدام القوة قد أفلحا في تحويل الجزائر عن موقف الحياد الذي تبنته في هذا الصراع الاوروبي، ووصل التوتر بين الطرفين إلى حافة الحرب عندما استقبل الداي مصطفى مبعوث نابوليون ديبوا تانفيل الذي ابرم معه هدنة ثم صلحا نهائيا عام 1801. لقد هدد الانجليز بقصف العاصمة، ولما لم يفلحوا في ذلك عمدوا إلى ضغط على الجزائر بواسطة الدولة العثمانية التي اتخذت اجراءات انتقامية ضد مصالح الرعايا الجزئريين في الاراضي العثمانية بالمشرق، كما قامت بحجز بعثة جزائرية كانت بالقسطنطينية في تلك الفترة ومع ذلك فلم تؤدي هذه الضغوط إلى النتائج التي توخاها الانجليز.

وخلال مؤتمر فيينا طرحت انجلترا "مسألة" دول المغرب البحرية وعلى راسها الجزائر، كما لوحت بمشروع تكوين رابطة بحرية مشكلة من دول أوروبية المشاركة في المؤتمر لمهاجمة دول المغرب البحرية (الجزائر، تونس، ليبيا) وإذا كانت روسيا والنمسا قد اتفقتا مع اجلترا على ضرورة وضع حد لاستقلال دول المغرب البحرية، تحت شعار "محاربة القرصنة" ولكنهما أبديتا تحفظات بخصوص تفاصيل تحقيق هذا المشروع. اما بالنسبة لفرنسا فلم يكن لها دورا يذكر في هذه المداولات على اعتبار كونها دولة منهزمة، ومع ذلك فقد سعت بطرق ملتوية من اجل عدم تجسيد هذه الفكرة لما تمثله في طياتها من مخاطر على مصالح فرنسا المتوسطية في المستقبل وأمام هذه العراقيل والمثبطات، قررت انجلترا معالجة الموقف بصفة منفردة والذي نجم عنه قصف مدينة الجزائر وحرق الاسطول في الميناء عند أواخر شهر أغسطس من سنة 1816.

يلاحظ على الجزائر أنها لم تتاثر من هاته الضربة المباغثة، حين استطاعت أن تعيد بناء وحدات الاسطول والوصول بها إلى المستوى الذي كانت عليه تقريبا، بعد فترة قصيرة جدا. ومن ناحية اخرى فدبلوماسية البلاد لم يعثرها أي انخذال أو ضعف.

لقد رفضت اعتبار الارادة الاوروبية ملزمة لها وترى ان (قانون البشر) يجب أن يصاغ وفق ارادة الدولة في أية قارة توجد وليس وفق ارادة الدول الاوروبية وحدها. ولقد تجسد هذا الموقف في الرد الشفاهي الذي اعطاه الداي حسين للمبعوثين الانجليزي والفرنسي الموفدين من طرف دول مؤتمر إيكس لاشابيل لتليغ الداي بالقرارات التي اتخذتها بشأن (قرصنة دول المغرب البحرية)، وخلال المقابلتين اللتين أجراهما الدي مع هذين المبعوثين تبين له أن الدول الاوروبية، بالرغم من تصريحها المعلن كانت تتآمر على استقلال الجزائر، خاصة وان كل من روسيا والنمسا لم تعد تعترفان بهذا الاستقلال وتصران على هذا اعتبار الجزائر جزء من الامبراطورية العثمانية. نظرا لما تجريه من لفوائد العملية من وارء هذا الموقف واستخدامه للضغط على الدولة العثمانية لافتزازها.

لقد اوضح الداي للمبعوثين أن ما تشكوا منه الدول الاوروبية ليس له وجود حيث أن الجزائر هي في حالة سلم مع جميع الدول الاوروبية البحرية مؤكدا من جهة ا خرى انه لن تعتبر الجزائر نفسها في حالة سلم إلا معالدول التي ترتبط معها بمعاهدة صلح ولها قنصل معتمد بها. اما بالنسبة لقضية استرقاء الاسري فقد تبين للمسؤولين أن الخلاف يكمن فقط في التسمية. فوضعية الأسى الأوروبيين في الجزائر لا تتميز عن وضعية اسرى الحرب في أي بلد اوروبي، ولذلك لم تجد غضاضة في شطب هذه التسمية. ولقد كرس هذا التغيير في الحرب القصيرة التي خاذتها ضد اسبانيا حيث عاملت اسرى الحرب الاسبان على غرار معاملة الدول الأوروبية لهم.

إن نشاط الدبلوماسية الجزائرية في العصر الحديث ليس كله مضيئا، فهناك ضلال وعناصر سلبية في هذا النشاط نجملها في النقاط التالية:

انعدام المبادرة والحرككية في نشاط الديبلوماسية الجزائرية حيث يلاحظ عليها أنها التزمت موقف دفاعيا ساكنا. فهي لا تطالب بشيئ ولا تسعى بالتحقيق أي شيئ أو أية أهداف سواء كانت هاته ظرفية أم مرحلية او اهداف بعيدة المدى كما أن انعدام توفر جهاز مختص بمتابعة هذا النشاط وتطويره يشكل حجر تقل في عملية هذه البلوماسية وتخفيظ مردوديته، إلى جانب طغيان النظرة المثالية للعلاقات الدولية التي كانت تسترشد وتستوحي مسكلها من مبدأ (الحق والعدل) الذي نجده على شفاه كل المسؤولين الذين تعاقب على السلطة اثناء هذه الحقبة الطويلة.                 

Voir les commentaires

<< < 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 > >>