أرض العراق نار وسماؤه لهب جحيم لا يطاق، هذه هدية الأمريكان والأذناب إلى أرض الرافدين مهد الحضارة الإنسانية الأولى، بالقرب من مواطن الأنبياء، أرض لا تزال تفوح بحرارة أنفاس النبوة الخاتمة والرسالة الخالدة، رغم رائحة النفط العفنة وفساد الخلق والعباد الذي عم وغشى في بلاد النتيجان والصولجان بالخليج وما جاوره.
إن سر الوثبة العملاقة التي جعلت العراق يقف في وجه الحلفاء بقيادة أمريكا وينتصب أمامها وجها لوجه في منازلة فريدة من نوعها في التاريخ، نترك الحديث عن الأسباب السياسية والنفطية ونحاول أن نقتفي آثار مسيرة العراق في بناء قوته العسكرية التي خاضت معركة المصير، فما هي حدود هذه القوة التي صنعت الثقة والصمود العراقي الذي لم يبالي بكل ما حشدته له أمريكا وأتباعها؟
يتفق العدو والصديق بأن العراق قد قطع شوطا لا بأس به في كسر طوق الاحتكار في تكنولوجيا صناعة الأسلحة وعلى الخصوص في صناعة الصواريخ والسلاح الكيمياوي المزدوج بالإضافة إلى شرائه خلال العقد المنصرم منظومات وأسلحة يقدر الغربيون قيمتها بـ 50 مليار دولار لتسليح جيشه وضمان تفوقه النوعي أثناء مواجهة الجيش الإيراني طيلة ثماني سنوات كان يعتمد فيها هذا الأخير على الكثافة العددية والأمواج البشرية لسكر القوة الضاربة للجيش العراقي.
و أمام انعدام المعلومات الحقيقية فإننا نعتمد على المصادر الغربية. ونشير إلى أن هذه المصادر مهما حاولت أن تكون موضوعية فيجب أن نأخذها بحذر وتحفظ شديدين. لأن الأمر قد لا يخلوا من المغالطة كالمبالغة حينا والتقليل أحيانا أخرى. هذا من جهة، كما أنه من الغباء الاعتقاد بأن أخطبوط هذه المصادر يمكنه الوصول إلى معرفة كل الحقيقة من أسرار التسلح وإمكانيات العراق العسكرية بدقة متنافية، فلو كان ذلك بمقدورها لما وقع الحلفاء في هذه الخبطة مع الأيام الأولى، لبداية الحرب، ولما أعدوا كل هذه العدة لتدمير العراق من جهة أخرى.
وفيما يخص سلاح الدبابات الذي كان له الدور الأساسي في عملية اجتياح الكويت، وهو السلاح الذي تخشى الجيوش العربية مواجهته في الصحراء، فحسب المعلومات المتداولة يبلغ عدد الدبابات العراقية حوالي 5300 دبابة معظمها سوفييتية الصنع من بينها 500 دبابة ت 72 الحديثة التي كانت تسمى عروس الدبابات لسنوات عديدة قبل ظهور دبابة ت.80، والدبابة ت.72 هي التي اعتمد عليها العراق في مواجهة أحدث الدبابات الأمريكية والبريطانية والألمانية في الحرب البرية التي كانت الفاصل في حسم الحرب، ولهذا فالائتلاف الغربي بزعامة الولايات المتحدة يحسب ألف حساب حتى لا يقع في الخطأ مثلما حدث في الحرب الجوية التي فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية رغم كثافتها وقوتها التدميرية. وعلى الرغم من أن الدبابات العراقية التي تمثل أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا لا تتجاوز في عددها 500 دبابة إلى أن الغربيون يتخوفون من العدد الإجمالي في حد ذاته، كما أنهم وضعوا في الحسبان الخبرة القتالية لأفراد القوات العراقية المدرعة وقدرتها على الاستعمال المثالي والأداء العالي الذي يطغي عن الجانب التقني لبعض التشكيلات القديمة نوعا ما في الدبابات العراقية. وهو ما ظهر من خلال معركة الخفجي التي كشفت بعض المفاجآت العراقية في سلاح الدبابات.
أما فيما يخص سلاح المدفعية فإن العراق لم يعتمد على الاتحاد السوفييتي فقط كمصدر وحيد لاقتناء السلاح إذ عمل على المقايضة بين امتيازات التكنولوجيا في عالم السلاح على عدد لا بأس به من الأنظمة المدفعية المتطورة منها أجيال متطورة من المدافع السوفييتية ذاتية الحركة، ومجموعة من مدافع الهاوتن ومدافع فرنسية ذاتية الحركة، وقد توصل العراق من خلال المفاضلة إلى إنتاج مدافع عراقية، منها ما يصل مداه إلى حوالي 39كلم، ومجموع أنواع المدفعية التي بحوزة العراق تشكل نظما ممتازة يمكنها منافسة ومقارعة المدفعية العربية، يبقى فقط عائق بسيط ولكن مهم للغاية وفق عائق الذخيرة، فإذا كان العراق يتوفر على كميات كبيرة فبإمكانه أن يخوض حربا رئيسية وبالمدفعية ولمدة طويلة، وجدير بالذكر أن للعراق مصانع لإنتاج الذخيرة والألغام والمتفجرات التي لا تقل كفاءة عن نظيراتها لدى جيوش الحلفاء، وفي التي سمحت له بإقامة شبكة من حقول الألغام في الجبهة وعلى طول حدوده مع السعودية وتركيا وحسب المصادر الغربية فإن العراق قد توصل إلى إنتاج متفجرات شديدة المفعول تتشكل من مزيج من الهواء والينزين تنتشر على ارتفاع 10 أو 13 مترا فوق سطح الأرض وتتفجر عند امتدادها على مساحة تتراوح بين 200 و300 متر بفعل شحنة متفجرة ثانية تسفر عن انفجار هائل وحرارة كبيرة ووميض باهر، ومن المعلوم أو تقنية المزج بين الهواء والبنزين في صناعة المتفجرات غير محدودة وإذا استطاع العراق أو يسيطر عليها ويتحكم فيها فبإمكانه أن يتحصل على سلاح فتاك يصل في قوته التدميرية إلى درجة صلاح نووي صغير يستعمل في ساحة المعركة فقط.
أما بالنسبة لسلاح الطيران الذي لعب دورا حاسما في الحرب ضد إيران فالمصادر الغربية تزعم أنه استطاع السيطرة والتفوق بسبب غياب الطيران الإيراني عن المشاركة في المعركة. أما في هذه المرة فإن فعالية محدودة جدا لا حظ له في المواجهة بالنزال أمام الآلة الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وهذا من الناحية النقدية صحيح جدا، إلا أنه يحمل بالمقابل شيئا من الحرب النفسية على العراق وترهيبه بالتفوق الغربي المطلق في ميدان المواجهة الجوية كما أن الغرب كان يخشى إلى حدود بعيدة مفاجآت الطيران العراقي وشجاعة صقور الجو العراقيين، ولهذا ركز الحلفاء على تدمير الطيران الحربي العراقي ومنشأته لتحييده، وهو أمر لم يتحقق بعد 45 ألف طلعة للإغارة على الأهداف العسكرية كما يزعم الحلفاء، وهذا بفضل الاستعداد العراقي وتحصينه لقواعده وعيون الفضاء التي تاهت وراء السراب، بينما احتفظ العراق بقوته الجوية في القوت المناسب، وهو ما أثار حفيظة الحلفاء خاصة بعد أن لاحظ توجه عدد من الطائرات العراقية إلى إيران طلبا للجوء والحماية بعد انكشافها ومراقبتها من طرف العدو، فهي لا تستطيع العودة مباشرة لتنفيذ المهمات القتالية إلى مخابئها، ولا شك أن الحلف الغربي سوف يجعل هذه الحادثة مشكلة سياسية وضجة إعلامية لإخراج إيران وفرملة اندفاعها في مؤازرة العراق، وقد لا يستغرب أن يمارس الحلفاء ضغطا كبيرا على إيران التي أعلنت حيادها في الحرب على أساس قرارات مجلس الأمن وتطبيق الحضر والحصار المطبق على العراق لغلق الحدود الإيرانية المنفذ الوحيد الذي تتنفس منه بغداد والملجأ الذي يقصده الفارون من جحيم القصف الجوي المكثف على المدن العراقية.
وبحسب المصادر الغربية فإن سلاح الجو العراقي يضم 300 طائرة مقاتله أغلبها من صنع سوفييتي من أجيال الميغ 23 إلى 29 سوخوي.24 التي تعتبر طائرة متقدمة جدا بفضل تقنيتها وقدرتها على العمل في أصعب الظروف الجوية والعسكرية وعلى مسافات بعيدة وبحمولة تتراوح ما بين 2.5 إلى 2 أطنان ولكن الغرب كان يملك معلومات كافية عن هذه الطائرات التي يملكها العراق من هذا الطراز، وهناك أيضا مقاتلات الميراج الفرنسية التي بمقدورها حمل الأسلحة المتطورة مجهزة ولكنها لا تصل إلى درجة SU-24 التي تعتبر طائرة استراتيجية بالمواصفات القتالية.
لقد حاول العراق امتلاك كل الأسلحة والمعدات التكنولوجية الضرورية التي تضمن له الاستقلال والتكامل بين الأنظمة والأسلحة، ففي هذا الجانب –مثلا- اشترى في السنوات الأخيرة مجموعة من أنظمة الاتصال والمراقبة، ومجموعة من الفرقاطات الحديثة والزوارق التي تتحمل الصواريخ من إيطاليا، ولكن ضيق المجال البحري لا سيما في ظل وجود الأرمادا البحرية الضخمة للحلفاء في مياه الخليج يشكل عاملا يحد من استعمال العراق لقواته البحرية على نطاق واسع رغم توفره على صواريخ أكسوزيت الفرنسية التي تعتبر من أحدث وأخطر الأنظمة المضادة للسفن الحربية.
ولم يكتف العراق بالحصول على هذه الأنظمة وعلى الآلة الجاهزة بل عمد إلى الموازنة بين هذه الأنظمة التكنولوجية والمفاضلة بينها والاستفادة منها في الصنع والابتكار والتعليم منها، وهذا رغم الرقابة المتشددة عليه وعلى غيره من دول الجنوب، بقي أن الجانب الحقيقي والتحدي الكبير الذي دفع الغرب كله بزعامة أمريكا ومن ورائها إسرائيل إلى الانقضاض على العراق في هذا الوقت بالذات، فهذا الجانب هو الأسلحة غير التقليدية بما تشكله من تهديد على إسرائيل، بينما يدعي الغرب أنها تهدد الأمن والسلم الدوليين وبإيعاز من إسرائيل واللوبي الصهيوني تحركت الآلة الحربية الغربية بكل وسائلها السياسية والإعلامية والعسكرية لتدمير العراق القوة الناشئة والمنبعثة من رحم الهزائم الغربية المتكررة على الصعيد السياسي والعسكري أو حتى الحضاري فالولايات المتحدة تدعى أن العراق هو أكبر منتج للأسلحة الكيميائية لا سيما الغازات السامة مثل غازات الأعصاب والخردل وتدعى أنها فتاكة جدا أكثر من نظيراتها عند السوفييت والأمريكان وتفيد مصادر البنتاغون أن الترسانة العراقية غير التقليدية تشمل الأسلحة البيولوجية، إذ تمكن العراق من الحصول عليها بمسادة الغرب بالدرجة الأولى لا سيما من خلال تعامله مع مجموعة من الشركات الألمانية الصغيرة التي وجدت التعامل مع العراق عملية مربحة للغاية مقابل تزويده بالمعدات والتقنيات التي يطلبها.
وقت يكون النجاح الذي حققه العراق في مجال الصواريخ من أكبر التحديات التي أثارت الغرب خاصة وأن العراق قد استعملها فعلا في ضرب إسرائيل والسعودية ردا على الحرب الجوية التي شنتها الحلفاء على العراق لتدميره تدميرا كاملا، ويقول الغربيون أن الصواريخ سوفييتية مت طراز "سكود بي أس Scud BS أدخل عليها العراقيون تعديلات طفيفة لزيادة مداها هذا في الظاهر، أما في الخفاء فهم على يقين أن الحقيقة غير ذلك، ويدعى الأمريكيون أن النجاح العراقي ما كان ليتم لولا المساعدات الأوروبية خصوصا من إيطاليا وألمانيا والنمسا التي كان وراء تطوير الصاروخ "الحسين" ثم "العباس" وهذا رغم تأكيدات العراق أنها من ابتكاره وصنعه الخالص وليس من تعديلات صاروخ سكود السوفيتي وقدم العراق دليلا على هذا القول وهو أن منظومة الباترويت الضمادة لصواريخ لا تستطيع السيطرة على الحسين والعباس لأنها وضعت خصيصا. للتعامل مع صواريخ "سكود" وبالتالي لا يمكنها التصدي لصواريخ الحصين والعباس لاختلاف نظام التوجيه والمراقبة عن ناظم "سكود"وفي مقابل التقليل الأمريكي من شأن صواريخ الحسين والعباس يقولون أن العراق يقوم بتطوير جيل جديد من الصواريخ الأبعد مدى والأكثر دقة، وحسب مصادر البنتاغون فإن مركز أسعد 16، للتكنولوجيا بمدينة الموصل شمال العراق يعتبر أكبر مركز لأبحاث الصواريخ في العراق.
بعد النجاحات الملحوظة باعتراف العراق وشهادة العرب بأن العراق يشكل قوة عسكرية تقليدية في المنطقة ويمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة الكيماوية –الكميائي المزدوج- والبيولوجية والصواريخ إلا أن الخبراء الغربيون يتساءلون عن مدى قدرة العراق على امتلاك الأسلحة النووية سواء بصنعها أو باقتنائها، وازدادت شكوك الغرب بعد التصريح الغامض للرئيس صدام حسين عن تجهيز صواريه بكل أنواع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية. غير أن الملفت للنظر هو تراجع الغرب عن حملة الادعاء بامتلاك العراق للسلاح النووي فيتجرد تلميح الرئيس العراقي بذلك انعكست الآية رأسا على عقب، إذ أصبح خبراء الغرب وساسته يقللون من قدرة العراق ويستبعدون إمكانية امتلاكه للسلاح النووي وهذا لطمأنة الرأي العام لدول الحلفاء وإسرائيل من مخاطر الرد العراقي بالسلاح النووي، وهذا الموقف الغربي يعكس درجة الحالة النفسية للحلفاء وخشيتهم من مفاجآت عراقية قد لا يستطيعون التنبؤ بعواقبها وحدودها في حرب الخليج التي كانت بدايتها تدميرا شاملا لكل ما هو فوق الأرض العراقية من حياة وعمران ومدنية، وهو ما يدل أن الآلة الأمريكية تستطيع التدمير وتستطيع الحرب ولكنها في المقابل لا تقدر على البناء وصنع السلام.
إن ادعاءات واشنطن التي تقول بأن العراق قد تمكن عقب نهاية حربه مع إيران من إعادة بناء برنامجها النووي الذي دمرت إسرائيل نواته الأولى وهي مفاعل تمور النووي عام 1981، إذ نقول أنه بمجرد نهاية الحرب بدأ العراق في محاولات جادة لاقتناء المعدات التكنولوجية الضرورية لتطوير برنامج الأسلحة النووية، وسربت المخابرات الأمريكية معلومات تفيد بأنها على علم بمحاولات العراق الخاصة بهذا الشأن في كل من سويسرا وألمانيا وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وقد بلغت الحملة الأمريكية دورتها بافتعال حصول العراق على مكثفات نووية أمريكية بطرق غير شرعية واستخدامها لأغراض التفجير النووي وتدعي أن النشاط العراقي تزايد في أوربا على الخصوص للحصول على قدرة تكنولوجية تمكنه من إنتاج اليورانيوم المخصب الذي يمكن استخدامه في صنع جهاز تفجير نووي وتستدل على هذه الأقوال ببعض شهادات المختصين الذين تعاونوا مع العراق والتي مفادها أن هذا الأخير قد تحصل على اليورانيوم المخصب من مفاعلاته تارة وتارة أخرى من البرازيل التي زودته والتكنولوجية اللازمة من برنامجها النووي الخاص.
كما هو معلوم فالعراق من بين الدول 141 دولة التي وقعت على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية التي تحضر على الأطراف الموقعة اقتناء الأسلحة النووية وتمنع الدول التي تملكها من مساعدة الدول غير النووية في صناعة الأسلحة النووية والذرية، ولكن الأمريكيين يتهمون الدول التي زودت العراق بالأسلحة التقليدية بأنها قد ساعدته للحصول على الأسلحة النووية وعلى رأس هذه الدول جمهورية الصين الشعبية التي لم توقع المعاهدة السابقة. إذ اتهمها الأمريكيون بأنها أرسلت مادة البلتونيوم إلى الأرجنتين ثم الباكستان الذي قام بدوره بتزويد العراق بهذه المادة.
إن جهود العراق لكسر القيد ورفع التحدي على مستوى السلاح والتسلح اقتناء وصناعة. وهي من الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة وحلفاءها إلى فتح نار الحرب على العراق وجره إلى مواقع الإطاحة به بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة وذنب بغداد في نظم الغرب هو جرأته ومحاولاته الجادة لأن يتبوأ العراق مكانه الطبيعي بين الدول والأمم شأنه شأن القوى الكبرى وهي رغبة أكيدة عند العراقيين شعبا وقيادة. ومن أجلها قبل العراق التحدي ورفض التراجع لأنه فضل الموت أو النصر بدل الظلم الذي سلطه الجبروت الأمريكي والصهيوني على الأمة العربية والإسلامية التي أصبح الغرب كله يخشى أن تكون يقظتها على يد صدام أو أن يكون انطلاقها من بغداد مرة أخرى مثلما كان يحدث دائما في التاريخ.