Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

كتاب المعارك السرية بين مخابرات الثورة الجزائرية ومخابرات الاستعمار/الاستراتجية العسكرية لثورة /صالح مختاري

 

الاستراتيجية العسكرية في حرب التحرير الجزائرية

 

إن الإستراتيجية  العسكرية هي فن القيادة العسكرية، وموضوعها هو الحرب، وهدفها  هو تحقيق النصر العسكري في عملية تصارع أرادت متباينة.

والمعارك العسكرية عبر التاريخ تتشابك فيها عوامل مختلفة ومعقدة، اقتصادية، مالية، سياسية، إيديولوجية، حضارية، تقنية... ولذا فإن الإستراتيجية في الحقيقة ليست سوى فن السيطرة على جميع موارد الأمة بما فيها القوات المسلحة واستخدام هذه الموارد أفضل استخدام، وإلى أقصى حد ممكن لتحقيق النصر. وفرض إرادة الأمة.

واجتهادات منظري الفن الإستراتيجي الذين زخر بهم النصف الثاني من القرن الماضي، تمخضت عنها ظهور الإستراتيجيتين عسكريتين وضعتا موضع التطبيق منذ بداية هذا القرن، وهاتان الإستراتيجيتان هما:

-الإستراتيجية المباشرة، أو "إستراتيجية إفناء " التي تؤمن بالعنف والصدام، وترى بأن الدماء هي ثمن النصر، وبأن القوة هي وسيلته. ومن مظاهر هذه الإستراتيجية قيام الصراع   بين جيوش جرارة، مع الاعتماد على حرب نفسية واسعة لكسب هدف الحرب.

-الإستراتيجية غير المباشر، "إستراتيجية إجهاد"، وقد كانت المبدأ الحاسم للدول الاشتراكية، وأيضا في الحروب الثورية والتحريرية، ومن مظاهرها أنها حرب طويلة الأمد، تعتمد على قوى الجماهير العريضة في بلوغ هدفها الإستراتيجي.

ولقد كانت هاتان الإستراتيجيتان الأساس الذي انبثقت عنه جميع الإستراتيجيات المعاصرة التي وإن اختلفت من حيث طرائق العمل والسبل تحقيق الغايات، إلا أنها تتفق على أن الحرب عمل وطني تشارك فيه الأمة بكل ما أوتيت من قوة ومواهب وموارد وقدرات مادية ومعنوية لا دحض الخصم وبلوغ هدف الحرب...ولا يعنينا هنا تتبع المسالك التي تدرجت فيها هذه الإستراتيجيات وعوامل تطورها ومحمياتها، بقدر ما يهمنا الحديث عن مسائل ثلاثة لما لها من أهمية في توضيح معالم إستراتيجية جبهة وجيش التحرير الوطنيين.

الأولى، وهي أن حرب التحرير الوطني بحكم الظروف المعشية اتئد، اختارت النهج الثوري في كفاحها المسلح، والابتعاد ما أمكن عن المواجهة المباشرة مع العدو، وهو ما تجلى واضحا منذ أول وهلة حين لاذ مفجرو الثورة للاحتماء بالجبال، واعتمادات (أي الجبال) كمركزه في تنفيذ عملياتهم الخاطفة التي أعقبت ليلة التفجير.

الثانية، وهي أن علماء الإستراتيجية على الرغم من أنهم يقرون بالصفة المتبدلة للحرب التي تجعل من الصعوبة بمكان إدراج فن الإستراتيجية العسكرية ضمن قوالب، أو حصره ضمن نماذج معينة، إلا أنهم مع ذلك حاولوا كل بطريقته،     إيجاد نماذج إستراتيجية، وقالوا أنها تحقق الهدف الإستراتيجي رغم الظروف و المواقف المتغيرة للحرب، وهذه النماذج التي تعرض لها أكثر من إستراتيجي، نجدها أكثر تنسيقا ووضوحا في كتاب الجنرال (بوفر) السالف الذكرى، حيث أورد خمسة نماذج الإسترتيجيا هي:

1-               إذا كان سبب النزاع صغيرا وكانت الإمكانيات المتوفرة قوية جدا، فإن مجرد التلويح بهذه الوسائل كاف لإخضاع الخصم  وحمله على القبول  الشروط المفرودة والانقياد للإدارة الوطنية.

2-               إذا كان سبب النزاع صغيرا، وكانت الإمكانيات محدودة لا تكفي لتحقيق تهديد حاسم، فإن البحث عن النتيجة الحاسمة يكون عبر أعمال خداعية مناورات سياسية واقتصادية.

3-               إذا كانت الوسائل المتاحة محدودة، ولكن الهدف كبير، فإن بلوغ النتيجة المرجوة يكون بسلسلة  من الأعمال المتعاقبة بقوات محدودة تحقق الهدف بصورة متدرجة.

4-               إذا كان حقل حرية العمل العسكري واسعا، ولكن الوسائل المتوفرة لا تكفي للوصول إلى نتيجة عسكرية حاسمة، أمكن اللجوء إلى الإستراتيجية  صراع طويلة الأمد تنهك العدو ماديا ومعنويا، وقد تكون الوسائل المستخدمة في هذه الإستراتيجية بدائية للغاية(كالحجارة في فلسطين) إلا أن حسن استخدامها يجعل العدو يبذل جهدا أكبر من أن يتحمله إلى ملا نهاية.

5-               إذا كانت الوسائل العسكرية المتوفرة قوية ومجال حرية العمل العنيف كاف، فإن تحقيق النتيجة الحاسمة يكون عن طريق صراع عنيف قصير الأمد، وقد يكفي ذلك لإرضاخ الخصم إن كان سبب الصراع  غير حيوي بالنسبة إليه، وإلا فإن احتلال جزء من أرضه كاف لتجسيد هذه الهزيمة وإخضاعه للإرادة القومية.

وما تجدر الإشارة إليه، هو أن هذه النماذج الخمس (بوفر) ليست كل أنواع الإستراتيجية، وإنما هي أمثلة واقعية لأهم هذه الأنواع.

واختيار الإستراتيجية النموذجية عملية تتطلب دراسة منهجية لجميع العوامل العسكرية، الجغرافية الاقتصادية، النفسية، الحضارية، وبعد ذلك القيام بعملية تركيبه لتحديد الحل المناسب لبلوغ الهدف من الحرب.

الثالثة، وهي الحديث عن مفهوم جديد للإستراتيجية ظهر في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وكان نتاج تطور الوعي الإستراتيجي من جهة، وتعاظم آلة الدمار من جهة أخرى وهذا المفهوم يتمثل فيما يعرف باسم "الإستراتيجية العليا"، وهو على عكس كلمة "الإستراتيجية" التي ينحصر مداها في الحرب فقط، يتعدى هذا المدى إلى مرحلة السلم التي تعقب الحرب، ويعمل لتلافي كل ما يؤدي هذه المرحلة التي يجب أن تكون ثابتة وتضمن السلم والازدهار.

وهدفنا من إيراد هذه المسائل الثلاث هو، وضع ثورة التحرير في سياقها الإستراتيجي، وفي صورة التي أرادها  لها مخططيها وقادتها، حيث أن الجيش التحرير الذي انتهج منذ البدء أسلوب  المواجهة غير المباشرة وتبني الإستراتيجية طويلة الأمد بفعل المحدودية وسائله المادية  وطاقته البشرية..، هذا الجيش بقيادة جبهة التحرير الوطني، وقف قبل انقضاء حولين عن بداية كفاحه المسلح، لا لان يحدد فحسب المكانيزمات الفاعلة لتحقيق هدف الحرب، وإنما أعطى أيضا تصوره الأولي للمجتمع الجزائري في مرحلة ما بعد الحرب، وقد حددت وثيقة الصومام وإن كان ذلك بغير تحليل علمي معمق نظام الحكم في البلاد، وعلاقة الجزائر بالمجتمع الفرنسي، ووضعها الإقليمي في إطار المغرب العربي وفي الإطار القومي العام.

ولا أريد أن يفهم مما وردته، بأن الثورة الجزائرية خطط لها أناس من ذوي الاختصاص في الميدان الإستراتيجي، أو أن عمليات غرة نوفمبر قادها (ضباط) تخرجوا من كليات الفنون الحربية، لأن الثابت هو أن هذه الثورة اندلعت من غير تعليم مسبق. لمفجريها ورجالها في المدارس الحربية ولا في معاهد الدراسات الإستراتيجية...،غير أن هذا الوضع لا يسمح بحال من الأحوال التبجح بالقول على أن الثورة كانت عملا اعتباطيا، وأنها تفتقر لاستراتيجية واضحة المعالم محددة الوسائل والأهداف، لأن القراءة المتأنية ووقائع ثورة التحرير، تدل بما لا يدع مجالا للشك، على الشروع في تطبيق خطة إست راجية، موضوعها كفاح المستعمر، وهدفها تحرير البلاد، ووسائلها كل أدوات وأشكال الصراع، وقاعدة ارتكازها جماهير الشعب العريضة.

إستراتيجيتا " إجهاد" و"إفناء"  في حلبة ثورة التحرير

إن الدراسات الإستراتيجية، تقول بأن الصراع، أي صراع مسلح، لا يكون بين كتل جامدة، وإنما يجري بين كائنات حية ترد على الفعل العسكري، أو غير العسكري بفعل معاكس مثله أو أشد منه قوة وتأثيرا..،لذا فإن علماء الإستراتيجية يجمعون على أنه من الأولويات علم الإستراتيجية دراسة كيفية الوصول بالعدو إلى وضع نفسي وحالة ذهنية تجعلانه يقتنع بعدم جدوى الاشتباك أو مواصلته، وذلك بالاستخدام الجيد لمختلف وسائل القوة والتأثير المتوفرة...،وبعبارة أخرى فإن علماء الإستراتيجية يتفقون على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم على أن التفتيت المادي والمعنوي، هو هدف الخطة الإستراتيجية، لأن التفتيت بنوعيه يؤدي إلى ثني إرادة الخصم، وبالتالي إلى سهولة تحطيمه، ولقد كان هذا الهدف هو نفسه الذي توخته الخطط الإستراتيجية لكل من الجيش التحرير وجيش الاستعمار الفرنسي إبان الثورة، وحول هذا الهدف تمحورت خطط الخصمين واجتهادات الفريقين لإحداث التفتيت في الطرق الأخر حتى يسهل دحضه في الميدان...،وقد اعتمد الخصمان في ذلك شتى الوسائل العسكرية والدعائية والنفسية، وحاول كل طرف الاستفادة القصوى من مزايا مجتمعه البشرية والحضارية والمعنوية والفنية لا لحاق الهزيمة بالطرف الأخر..،ويطول بنا المقام لو حاولنا تتبع هذه الخطط عند الجانبين في محيط ثورة نوفمبر 1954، لأن ذلك أكبر من أن تتسع له هذه الصفحات. ومع ذلك فإننا نحاول استجلاء ملامح هذه الخطط المتضادة في خطوطها العريضة حتى تكتمل الصورة.

 فثورة التحرير، كما هو معروف، اندلعت بزمر وجماعات صغيرة، تقول بعض التقديرات إنها لم تتعد 400 مجاهدا ساعة التفجير...،ومع ذلك فإن قيادة الأركان العامة ومخططي الحرب الفرنسيين فرضت عليهم إحداث غرة نوفمبر أخذ جميع الاحتياطات والتدابير اللازمة لمواجهة الموقف،وليس ذلك بسبب شدة هذه الأحداث وقوتها، بقدر ما كان السبب في تزامنا وشمولها لجل مناطق البلاد.

وكما هو واضح فإن ميزان القوى غداة اندلاع الثورة، كان مائة بالمائة لصالح جيش الاستعماري، سيما إذا عرفنا بأن العدد الضئيل للمجاهدين كان في أغلبه مسلم بقضبان من الحديد والحجارة وفي أحسن أحواله ببعض بنادق الصيد القديمة وبمواد التفجير صنعت محليا للمناسبة.

وإذا قادة الثورة في بداية الكفاح المسلح، لم يعبأ بعامل التفوق في القوى وفي الوسائل الثابت لدى الطرف الأخر إلا أنهم من جهة أخرى وضعوا نصب أعينهم هدفا أساسيا يتمثل في تحاشيهم الهزيمة العسكرية، لأن الهزيمة في مثل تلك الظروف قد تكون لها انعكاساتها السلبية العميقة على جميع الأصعدة، ومن اجل تحقيق هذا الهدف التكتيكي والإستراتيجي في أن، كان تقديرهم للموقف القتالي انطلاقا من هذه المعطيات :

·        إزاء عدم جدوى المواجهة المباشرة مع العدو، أصبح الحل يتمثل في استنزاف قدراته المادية والمعنوية في زعزعة توازنه الاجتماعي والنفسي، ثم الاقتراب منه في الاتجاهات لا يتوقعها، وضرب مؤسساته الاقتصادية والإدارية، وتحطيم المنشآت مواطنه إتلاف ممتلكاتهم.

·        عدم الاستسلام لظروف التاريخ التي حرمت المجتمع الجزائري من أسباب التصنيع والتقديم العلمي، وبالتالي من الوسائل المادية اللازمة للنضال الثوري، وهو ما أدى إلى استنفار كل القوى الوطنية ووسائلها المتاحة لمجابهة الموقف وإلى اعتماد أسلوب حرب العصابات في القتال،وهذا عن طريق المقاومة الشعبية المتواصلة، وانتهاج أساليب الخداع والقتال الليلي ونصب الكمائن  و...و...

·         الاستفادة من جغرافية البلاد لتحقيق سلامة الجند وتوفير مجال حرية الحركة، وقد كان التركيز على المعالم التضاريسية التي لا تسمح بالانتشار السريع للقوات الحديثة مثل القوات الفرنسية، فوق الاختيار منذ البداية على " الأوراس" كعاصمة للثورة لما يوفره من فرص الاحتماء والتمويه والاختفاء، وأيضا لما يقدمه من حماية طبيعية ضد تأثير مختلف الأسلحة.

وعلى أساس هذه العوامل، بنيت في البدء إستراتيجية جيش التحرير الوطني المعروفة باسم "الإستراتيجية غير المباشر" أو " إستراتيجية إجهاد" التي راهن  عليها المجاهدون الأوائل لمواجهة " إستراتيجية إفناء" أو "إستراتيجية المباشرة" التي هي في الحقيقة الخيار العسكري الوحيد لجيش الاستعمار الفرنسي في محاولته تحطيم إرادة المقاومة الوطنية الجزائرية. وهذا ما جدا بقيادة ثورة  التحرير إلى بذل المزيد من الجهد لإعطاء الثورة مضمونها الشعبي  الذي دعا له بيان أول نوفمبر، والذي يعد من أهم عوامل الإستراتيجيات غير المباشرة.

أما عن الجانب الأخر، فإن إدارة الاستعمار، وأن روعتها أحداث غرة نوفمبر، إلا أنها لم تضع في حسبانها أن هذه الأحداث هي بداية لثورة عاصفة تفرض عليها في مقبل الأيام حوارا قاسيا ومريرا في المعترك الصراع. ومع ذلك فإنها لم تدع الحدث يمر هكذا دون إجراءات أمنية مشددة، وقد حاولت بجميع وسائلها العسكرية الأمنية والإعلامية محاصرة النتائج المترتبة عن الحدث وتفكيك الفريق الذي كان وراءه، غير أن الأحداث التي تلت عمليات أول نوفمبر جعلت المستعمر يدرك حقيقة وأبعاد الزلزال الأعظم التي كانت أحداث غرة نوفمبر بدايته. وقد عمل في التوصل على اتخاذ التدابير اللازمة لمنع حدوث هذا الزلزال، حيث تم الإعلان عن حالة الطوارئ وفرضت حالة الحصار على البلاد، وشرع في تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية عن كل نشاط ثوري ضد القوات الفرنسية ومصالح الفرنسيين، كما تم تنفيذ سياسة تجميع وحشد سكان الريف الجزائري ضمن محتشدات حتى تسهل مراقبته...،وأكثر من ذلك فقد بدأ التفكير لإعداد حملة واسعة النطاق لمحاصرة منطقة الأوراس (عاصمة الثورة) لجسم المعركة في الميدان.

وبعبارة أخرى فإن الأجداث الأولى لثورة التحرير، قد فرضت على قيادة الجيش الاستعماري وضع عدة خطط تكتيكية لتحقيق هدفها الإستراتيجي، ولم  تكن هذه الخطط عسكرية فقط، وإنما هناك أيضا خطط إعلامية وخطة سياسية لبلوغ هدف الحرب، حيث عملت أجهزة الإعلام والدعاية كل ما في وسعها لتضليل الرأي العام الداخلي والخارجي عن معرفة المقاصد الحقيقية لثورة التحرير، وتصويرها له على أنها أعمال تخريب وإجرام لقطاع الطرق والمجرمين.

كما أنه بالإضافة إلى عمليات الإبادة وتطبيق الأحكام العرفية لعزل الثورة عن محيطها الشعبي، فقد جرت أكثر من محاولة لتفجير جهاز الثورة من الداخل وفي هذا الإطار عمد(سوستيل) مثلا فور توليه مسؤولية الولاية العامة في عام1955 إلى تسليح بعض الجزائريين في بعض مناطق البلاد، وكانت خطته في ذلك تقتضي أن يمثل هؤلاء دور المؤيد للثورة والمشارك فيها حتى إذا ما سمحت الفرصة، وإلى حين إصدار الأوامر للأنقاض على جيش التحرير، غير أن العناصر المختارة لأداء هذه المهمة كانت من مناضلي جبهة التحرير الوطني، وقد استمرت في تمثيل هذه المسرحية إلى أن أتيحت لها الفرصة غداة انعقاد  مؤتمر الصومام فانضمت إلى صفوف جيش التحرير الوطني.

وباختصار، فإن قادة الجيش الفرنسي في أحداث أول نوفمبر حاولوا بكل ما أوتوا من قوة مادية ومعنوية وسياسية، تحقيق هدف الحرب،  كما جندوا إمكانيات عسكرية ضخمة لاكتساح منطقة الأوراس باعتبارها رأس الحرية في العمل الثوري في الجزائر، وعلى أساس أن سقوط الأوراس يعني موت الثورة المحتوم.

أحداث 20 أوت 55 تغير الحساب الإستراتيجي

الجيش الفرنسي الذي نفذ عملية حصار "الأوراس" للقيام بعمل عسكري يكون حاسما ويحقق الهدف الإستراتيجي للحرب ضد الثورة الجزائرية وتفنن جنده في التنكيل بالأهالي وفي تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية في إطار المحتشدات  والتجمعات السكانية بالمدن، حتى يقطع كل أواصر الجيش التحرير بقاعدته الشعبية...،وقد عانت الثورة وفق هذه الخطة المحكمة والقاسية الكثير من المصاعب، لو لا طابعها الشعبي الشمولي لا نقضي أمرها وهي دون عامها الأول، غير أن هذا العمق الذي حرصت عليه قيادة الثورة منذ الانطلاقة الأولي، كان من أهم العوامل التي فكت الحصار على المنطقة، وجعلت الهدف الإستراتيجي المزمع إنجازه في هذه العملية، سرابا يبعد عن كل خطوة في اتجاهه عدة خطوات...

لقد تجسدت إحدى روائع تلاحم الشعب مع جيش التحرير، في التضحية الشعبية اللامشروطة لمؤازرة سكان المنطقة هذا الجيش في ظروفه العصيب 

وإمداده بالمؤن وبالمعلومات عن العدو، وأيضا فيما كان يجري بالشمال القسنطيني من تحضير وإعداد لخطة هجومية تكتيكية تجبر العدو على قواه لتخفيف العبء على الأوراس المحاصر...،وقد تظافر هذان العاملان إلى عامل إستماته جيش التحرير، لتخرج الثورة من هذا الامتحان القاسي أكثر تصميما على مواصلة درب الكفاح.

هجومات الشمال القسنطيني عشية 20 أوت 1955  استهدفت كل ما يشكل أداة القمع من الجيش، درك، شرطة، قضاء...،وأيضا كل ما يشكل دواعي وجود المستعمر ومؤسسات وممتلكات وذلك في كامل منطقة الشمال القسنطيني.

ونستطيع القول بأن هذه العملية التي أعدها وقادها الشهيد زيغود يوسف، قد أعطت النتائج العسكرية المرجوة منها على الرغم من ضخامة الخسائر في الأرواح(700 شهيدا)،حيث اضطرت إدارة الاستعمار إلى أن تسقط من حسابها الإستراتيجي الكثير من المعطيات، وتضيف لها أخرى أكثر تعقيدا لمواجهة ثورة ليس موطنها(الأوراس) فحسب، وإنما كل التراب الوطني، وليس جيشا هو جيش التحرير فقط، وإنما كل الشعب الجزائري.

ووفق هذه القناعة الجديدة تشعبت مهمات الجيش الفرنسي وتعقدت أدواره فأضحى في حاجة إلى إسناد إضافي وإلى طرق جديدة لمواجهة الموقف وحسم الصراع، ولا نتكلم هنا عن الإمدادات الضخمة التي تم إرسالها من باريس إلى الجزائر لإنقاذ (الشرف الفرنسي)،ولا عن أساليب الإبادة وانتهاج سياسة الأرض المحروقة للسيطرة على الوضع، ولاعن الحرب الإعلامية والسياسية التي مارستها السلطات الفرنسية في تعاملها مع الحرب الثورية في الجزائر...،وإنما نشير إلى الحرب النفسية التي أولاها المستعمر عنايته بهدف أحداث التفتيت الداخلي في صفوف الثورة، ولقد خص لهذا النمط من الحرب جيشا جرارا بلغ تعداده عام1959 حوالي 27073 ما بين ضابط وجندي، وقد مارس هذا الجيش الضخم كل أنواع العمل النفسي لتحييد الثورة عن مسارها أو تفجيرها من الداخل، ونذكر من أنواع هذه الحرب كلا من العمل الداعم، والدعاية الموجهة ضد تشكيلات جيش التحرير.

فالعمل الداعم، هو لون من ألوان الحرب النفسية يستهدف المدنيين في مناطق العمليات العسكرية، وذلك طبقا لسياسة التجميع وإقامة المحتشدات لسكان الأرياف التي بدأت سلطات الاستعمار تطبيقها منذ بداية عام 1955، وقد أصبح الريف الجزائري وفق هذه السياسة عبارة عن مجموعة كبيرة من المحتشدات الواقعة تحت حكم الإدارة العسكرية لجيش الاستعمار، وتخضع لأحكام حالة الطوارئ وقانون المسؤولية الجماعية، ومنطق(فرق تسد)،  (جوع تطاع) و.. و...

أما النوع الثاني من الحرب النفسية، فهو الدعاية الموجهة ضد تشكيلات جيش التحرير بغرض عزل المجاهدين عن محيطها الشعبي، وإقناعهم بعدم جدوى مواصلة الكفاح المسلح، وبأن آمال الثورة هو النهاية المحتومة...،وقد استعملت إدارة الاستعمار في ذلك شتى الوسائل للتأثير على العمل الثوري الذي يزداد شدة يوما، كإثارة النعرات وإلصاق والتهم بقيادة الثورة، وتلفيق أخبار المعارك و...و...

ومن جهتها فإن الثورة بعد أحداث الشمال القسنطيني كان لزاما عليها أن تطور إجراءاتها التكتيكية بحسب المسجدات والظروف المفروضة، وأن تجد الحلول المناسبة لمختلف المشاكل والنواقص العالقة بالتنظيم والتأطير والتسليح وأن تواجه أيضا كل أشكال السلاح التي شهرها المستعمر في وجهها من دعاية وتضليل للرأيين العالمي والفرنسي...،وبعبارة أخرى فإن قوة رد الفعل المعادي ونوعه بعد أحداث الشمال القسنطيني، أوجد الحاجة لدراسة الموقف القتالي، وإيجاد صيغ جديدة من العمل والتنظيم والتأطير تتلاءم ومقتضيات التصدي الفعال للخطط المعادية التي تستهدف بأشكالها المتعددة إجهاض العمل الثوري لجبهة التحرير الوطني.

وهكذا نستطيع القول بأن أحداث 20 أوت1955 كانت مدعاة لتغيير عميق في الحساب الإستراتيجي لكلا الطرفيين المتنازعين، ففي الوقت الذي عمدت فيه القوات الفرنسية إلى إبعاد كل السبل المشروعة وغير المشروعة لتشديد قبضها على المجتمع الجزائري كانت قناعة قيادة ثورة التحرير بضرورة إعادة هيكلة الثورة وعلى النحو الذي يضمن تكريس جميع طاقاتها الشعب الجزائري لصالح العمل المسلح لبلوغ الهدف الإستراتيجي للحرب التحريرية.

مؤتمر الصومام وبداية العد العسكري:

وقفة الصومام التاريخية في أوت 1956، كانت ببساطة لقاء بين قيادة الكفاح المسلح لدراسة الموقف القتالي وإيجاد خطة استراتيجية تكون في مستوى مواجهة الخطة المعادية التي أبدع في صنعها منظورا الاستراتيجية الفرنسيين، وأوكل أمر تنفيذها لجنرالات غلاظ شداد، ووفرت لنجتحها الشروط المادية والتكنولوجية ووسائل الحرب.

وما تجدر الإشارة إليه، هو أن قبل مؤتمر الصومام، لم تكن هناك قيادة عكسية عليها تشرف على التنسيق بين العمليات العسكرية  في المناطق بمساعدة  أعوانه يجتهد إعتمادا على خبرته الشخصية لمواجهة المخاطر والصعاب، وغالبا ما كان ذلك بأفواج قليلة العدد من المجاهدين يسهل تموينها وإعدادها و تحركها، وتستطيع مفاجأة العدو وإخلاء مكان المعركة في الوقت المناسب، وتنفيذ العمليات في الزمن وفي المكان الملائمين للإنتصار ...،غير أنه بتطور الأحداث وبتطور وسائل الحربية الفرنسية وخططها التكتيتكية، أصبح لزاما على قيادة الثورة أن تلتقي لتقيم الماضي والتحخطيط للمستقبل بأقامة وتنظيم حالمؤسسات السياسية والعسكرية لجبهة وجيش التحرير الوطني الموكول لها مهمة إنجاز الهدف الإستراتيجي للحرب.

وهكذا، فبعد هذا اللقاء خرج المؤتمرون بقرارات غيرت بعمق مجري الأحداث، وقد أدى تطبيقها الصارم إلى بداية العد العكسي بين الإستراتيجيتين، ففي حين أخذت إستراتيجية جيش الاستعمار تتراجع تدريجيا، كانت إستراتيجية جيش التحرير تشق طريقها بكل حزم لأن تغدو سيدة الميدان.

ومن هذه القرارات، المصادقة على :

- الوثيقة السياسية للثورة التحريرية، وهي قاعدة أيديولوجية تحدد منهجية الثورة المسلحة لجميع الميادين، كما تحدد أفاق مستقبل الجزائر ما بعد الحرب .

-                                 إعادة تقسيم القطر الجزائري  إلى ست ولايات، في كل ولاية عدة مناطق ، وفي كل منطقة عدة نواحي، وفي كل ناحية عدة أقسام، وفي كل قسم عدة فروع.

-                                 تنظيم الجيش تنظيما عصريا برتبه العسكرية وتشطيلاته الحربية ومصالحه الفنية كالتموين والقضاء والاستخبار والصحة .

-                                 تعيين قيادة عامة وموحدة للثورة المسلحة بتكوين المجلس الوطني للثورة المتكون من 34 عضوا(ما بين أساسي و إضافي)،ثم تعيين لجنة التنسيق التنفيذ متكونة من خمسة أعضاء، والتي هي مسؤولة أمام المجلس الوطني للثورة باعتباره السلطة العليا في هرم ثورة التحرير .

وكما هو واضح فإن المؤتمر الوطني للثورة هو الهيئة الدستورية العليا لجبهة التحرير الوطني وهو يحدد المذهب والسياسة العامة للجبهة ويتمتع بكل السلطات الخاصة لإصدار القرارات ومراقبة منظمات جبهة التحرير الوطني.

والمجلس الوطني للثورة المنبثق عن المؤتمر والمسؤول أمامه، يعد الهيئة العليا للجبهة في الفترات الواقعة بين دورات المؤتمر، وله صلاحية  تكوين وتعيين لجان التأديب أو المراقبة الإدارية والمالية، وأي لجنة أخرى للتحقيق .

والمجلس الوطني تنبثق عنه لجنة التنسيق والتنفيذ التي تسهر على التنسيق بين أجهزة جبهة التحرير الوطني، وتعمل على تموين الجيش الوطني الشعبي بالأسلحة والذخيرة والرجال ، وهي مطالبة بتقديم تقرير عن نشاطها العسكري السياسي أثناء اجتماع  لمجلس الوطني للثورة.

        كما سهرت القيادة الثورية على إقامة مختلف أجهزة جبهة وجيش التحرير الوطني السياسي والعسكرية وتطويرها لتتلاءم مع تطور الكفاح الوطني على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن هذه الأجهزة من القاعدة إلى القمة نذكر:

المجالس الشعبية، القسم الناحية، المنطقة، الولاية وأخيرا القيادة العامة للثورة.

        فالمجلس، أو اللجان الشعبية تتكون من المناضلين الدائمين في جبهة التحرير الوطني في الحي أو الدشرة أو القرية أو المدينة... ويقوم العمل في هذه المجالس على مبدأ القيادة الجماعية التي لا ترضى باستئثار فرد واحد بالسلطة لتفادي الانحراف والخطيئة، وعليها فإن المجلس يتكون من الرئيس ومن أربع مسؤولين عن والمالية، والتموين، والأخبار والدعاية، والأمن والعدالة. وبعد المجالس الشعبية يأتي القسم، وقائده من أعضاء جيش التحرير الوطني برتبة مساعد وهو يجمع التوازي بين السلطة السياسي، والإدارية والسلطة العسكرية ومن أجل ذلك كان له نائبان، أحدهما سياسي والآخر عسكري، علاوة على نائب للأخبار والاتصال.

        وهكذا نجد أن القسم هو قاعدة  النظام العسكري بينما المجالس  الشعبية هي قاعدة النظام اللسياسي. والقسم ينقسم إلى عدة فروع تزيد أو تنقص بحسب اتساع رقعة القسم وعدد السكان به والظروف التي يعيشها، كما ينقسم في التنظيم على أعراش وكل عرش إلى (دواوير) وكل دوار إلى (فرقة) وكل فرقة إلى (دشرة)، وعلى كل دشرة لجنة ثلاثية قائدها مدني من المناضلين الأكفاء الملتزمين، تتبعه عدة فصائل مكونة من عدة خلايا.

        بعد القسم تاتي الناحية وتضم عدة أقسام يزيد عددها أو ينقص بحسبل اتساع الناحية وكثافتها السكانية. تدار الناحية بواسطة مجلس يتكون من رئيس الناحية برتبة ملازم ثاني يجمع بين السلطتين السياسية والعسكريةن ويساعده ثلاث نواب برتبة ملازم للشؤون السياسية، والعسكرية، ثم الاتصال والأخبار ولرئيس الناحية كل الصلاحيات لإصدار القرارات والأوامر على مستوى ناحية بعد اطلاع قلائد المنطقة.

        وتأتي بعد الناحية المنطقة، وهي تضم عددا من النواحي يتسع عددها أو يضيق تبعا لعدد المناطق بالولاية او عدد السكان بها. ويجمع قائد المنطقة وهو برتبة ضابط ثاني بين السلطتين السياسية والعسكرية وله نواب ثلاثة هو النائب السياسي (المحافظ السياسي)، النائب العسكري، النائب للأخبار والاتصال ولكل واحد مهام خاصة به.

        وبعد المنطقة تأتي الولاية، وقائدها برتبة صاغ ثاني، ونوابه الثلاثة برتبة صاغ أول، ويتولى أمر تسيير الولاية مجلس يضم قائد الولاية ونوابه ورؤساء المناطق وأحيانا النواحي، ويعر باسم (المجلس الموسع للولاية)، وفيه تتخذ القرارات الهامة، وقائد الولاية يجمع بين السلطتين السياسية والعسكرية وهو بحكم وظيفته عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وله الحق في اقتراح أو تعيين الأفراد في مسؤوليات قيادية بولايته.

        هذا وتجدر الإشارة إلى بعض المهام التي كان يقوم بها نواب قائد الولاية في حدود اختصاص كل واحد منهم، وهم: النائب السياسي، النائب العسكري، نائب الأخبار والاتصال.

        فالنائب السياسي من مهامه الإشراف على التنظيم السياسي لجبهة وجيش التحرير الوطني في المدن والأرياف التي تضمها الولاية، ويوصل صوت الثورة إلى كل مكان فيها، ويعمل على تكوين خلايا جبهة التحرير الوطني داخل كل مؤسسة أو منظمة، ويزود جيش التحرير بالرجال اللائقين، وينظم وحدات الفدائيين ويشرف على التربية السياسية والدينية، ويقوم بالدعاية المضادة بدعاية العدو كما يقم بتنظيم الإدارة المدنية ويرعى الأحوال الشخصية للمواطنين، ويشرف على جمع أملاك من هبات واشتراكيات وضرائب وغرامات، ويسهر على الشؤون الاجتماعية لضحايا الكفاح المسلح.

        والنائب العسكري لقائد الولاية يشرف على الوحدات العسكرية وكل ما يتعلق بالأمور العسكرية، فهو يدرس ميادين القتال ويقرر العمليات العسكرية ويوزعها على الوحدات لتنفيذها في المكان والزمان المحددين، ويتولى الإشراف على مراكز التدريب لإعداد وحدات القتال عسكريا، كما يتولى أمور تفقد السلاح في الوحدات العسكرية.

        أما النائب الثالث، فيقوم بتنظيم شبكات الاتصال بين المدن والأرياف في ولايته، ويربط بينهما وبين سائر التراب الوطني ومراكز القيادية للثورة، ويسهر على كشف أماكن تجمعات العدو ومراكز قياداته ونقاط مراقبته وخطة تحركاته.

        ومع هذه الهيكلة الجديدة لمجتمع الحرب في الجزائر، أصبح تشكيل وحدات جيش التحرير الوطني، كالآتي :

-                                 الفوج : ويتكومن من (11 )مجاهدا ، وجنديين أولين، وعريف وقائد الفوج يتسلح جميعهم بأسلحة خفيفة تعينهم على إنجاز العمليات العسكرية الخاطفة ضد العدو ومنشآته. وكان نظام الفوج الفدائي بالمدن والقرى.

-                                 الفصيلة أو الفرقة: وتضم (35) مجاهدا، أي  ثلاثة أفواج يختص فوج منها بالاستطلاع، والثاني يحمل الأسلحة الخفيفة، والثالث يحمل الأسلحة الثقيلة،  ويساعد قائد الفصيلة نائبان أحدهما يعرف بـ (المحافظ السياسي) الذي من مهامه جميع الأمور السياسية والاجتماعية والثقافية والصحية والإعلامية والدعائية والتوجيهية والثاني هو المساعد العسكري.

-                           &nbs

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :