حوض المتوسط الغربي بحرية فرنسيةتابع
وهذا ما يفسر عجز الحكومة الفرنسية عن كسب ثقة من يمثلون الاستعمار القديم، رغم الحاجة على ضرورة بقاء الجزائر فرنسية.
وزاد في مخاوف أولئك أن منديس فرانس كان يتحدث، في خطابه نقسه عن الجزائر الفرنسية يوم 12 نوفمبر، بلهجة تختلف عن لهجتهم، فقد قال عند تعرضه لوسيلة معالجة الموقف:
"يجب أن نعالج الجذور العميقة للمشاكل... هناك عدد من الاجراءات قيد الدرس سنبذل جهدا معتبرا لتحسين الأراضي البور وتطوير الصناعة، ان ممارسة الحقوق الديمقراطية والتعاون السخي للوطن الأم يجعلنا نعرف كيف ننشىء في الجزائر الحياة الفضلى التي يريد الوطن الأم تأمينها لكل المواطن".
في حين أن غلاة الاستعمار كانوا ضد هذا التوجه، رغم أنه يدرج في اطار "الجزائر الفرنسية" فالسيد كيليسي (QUILICI) كان يدعو إلى ممارسة القمع قبل كل شيء. وسيفر (SAIVRE) أكد في رده على أن "الفلاحين الجزائريين يرغبون في الخبز وليس في الحقوق السياسية". أي أن الطرفين كانا يدعوان لمنهجين مختلفتين: فأروبيو الجزائر كانوا يطالبون بالقمع ولا شيء غير القمع. أما الاصطلاحات فسوف تعرض للنقاش بعد تصفية "المتمردين" والقضاء عليهم نهائيا. بينما كان منديس يطالب بدراسة الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها في نظره أن تجتث عوامل السخط التي أفضت إلى الثورة.
وكان وزيره للداخلية آنذاك السيد فرانسوا ميتران يعتقد أنه اتخذ إجرائين على غاية كبيرة من الأهمية عندما طالب بادماج البوليس الفرنسي بالجزائر في بوليس "الوطن الأم" فقد كان يعتبر أنه قد برهن بذاك للجزائريين على حسن نيته.
سقوط رجل أم سقوط سياسة:
في الوقت الذي رجحت فيه الكفة التيار الاستعماري المتطرف بالجزائر، كانت مفاوضات التونسية، الفرنسية تتعثر بفعل عاملين: تعثرت في مرحلة أولى بسبب الضغط الذي كان يمارسه الجناح الراديكالي في الحزب الحر الدستوري الجديد، وكذلك بسبب استمرار بعض العمليات التي يقوم بها الثوار التونسيون من الحين لآخر في الجنوب. وقد طلب الطرف الفرنسي من الوفد التونسي رفض، لأنه بذلك تضعف مصداقيته الوطنية، ويفقد بالوقت نفسه وسيلة ضغط معتبرة. أنذاك فكر بعض الضباط الفرنسيين في طريقة لاحتواء ثوار الجنوب تتمثل في أن يلثي هؤلاء الثوار السلاح مقابل "الأمان" ويعودوا إلى منازلهم محتفظين بشرفهم كمقاتلين، وبدأ تنفيذ هذه العملية خلال نوفمبر 1954 وتمت يوم 10 ديسمبر، وبهذه الطريقة قدم 2700 ثائر سلاحهم وعادوا إلى بيوتهم، لكن المتطرفيين الأوروبيين بتونس ظلوا من حين لآخر يقومون ببعض العمليات الإرهابية.
كانت لهذه العملية إنعكاساتها على التصادم بين جناحي الاستعمار القديم والجديد: فقد رأى المتمسكون بالقديم في ذلك تشجيعا للثوار الجزائريين، ما داموا يعرفون أنه في الامكان حمل السلاح دون التعرض للعقاب، بل لقد وجد منهم بعد مضي أكثر من سنة على العملية من أدعى بعد ذلك أن إعطاء الأمان للثوار التونسيين كان هو السبب الرئيسي في تفجير الثورة الجزائرية، وإنه لولا ذلك لما كانت هذه، ناسين أن تسليم الثوار التونسيين قد تم بعد أول نوفمبر 1954.
أما العامل الثاني لتعثر المفاوضات فيتصل بموضوع مساهمة التونسيين في تسيير البلديات التونسية، وكذلك موضوع سلطات وصلاحيات البوليس المحلي التونسي. ورغم أن المفوضات الفرنسية – التونسية، لم تخرج من إطار بيان قرطاج، أي الاستقلال الداخلي، فإن اليمين المتطرف لم يغفر لرجل قرطاج ممارسة سياسة تخرج عن المعهود وتقوم على الحركة، ومن هنا أدانوه لسياسته التونسية التي رأوا فيها نوعا من المغامرة لمجرد كونها رفضت الجمود، وأدانوه لنوايا سياسته الجزائرية، رغم إنها كانت حريصة على إبقاء الجزائر فرنسية، ووعدت فقط ببعض الاصلاحات الاجتماعية، ولم تنجح حتى في وضع حد لعمليات التعذيب والقمع التي كان يتعرض لها المدنيون الجزائريون، مكتفية بالقول على لسان وزير الداخلية: لقد أعطينا الأوامر بإنهاء هذه الممارسات.
وهكذا سقطت حكومة منديس فرانس يوم 2 شباط (فبراير) 1955 ضحية لسياستها التي لم تخل من تناقض إذ جمعت بين الحركة، وإن تكن محدودة، في تونس، والجمود المطلق في الجزائر.
كان من المتوقع بعد ذلك أن تتخذ سياسة الحكومة الجديدة التي خلفتها برئاسة إدغارفور منحي آخر في كل من تونس والمغرب، يتلاءم مع الجمود الذي عرفت به الجمهورية الرابعة في معالجتها لشؤون المستعمرات. لكن ذلك لم يحدث لماذا؟
كانت الثورة الجزائرية تتواصل ويتسع ميدانها وتكسب المزيد من الأنصار مما عزز لدى باريس الخوف من قيام جبهة كفاح مسلح على مستوى مجموع المغرب العربي، خصوصا بعد ظهور نشاط جيش التحرير المغربي الذي كان تعبيرا مسلحا عن سياسة حزب الاستقلال، وظهور بوادر انشقاق في الحزب الدستوري الجديد بين الملتزمين بخط قرطاج والدعين إلى التشدد حتى الحصول على الإستقلال التام.
ورغم إن الصوت المسموع في الجناح التونسي من المغرب العربي كان هو الصوت الذي ينادي بأنه "أمامنا خمس عشرة سنة كي نهضم ما وقع التنازل عنه لنا. فبع ذلك فقط ننتقل إلى مرحلة الإستقلال"، رغم ذلك فسرعان ما تطورت الأمور في كلا جناحي المغرب العربي، ولم يحل مارس 1956 حتى أعلن استقلال البلدان.
ذلك أن الثورة الجزائرية كانت تمثل عنصر ضغط وعامل تفجير لمجموع الجهاز الإستعماري في المنطقة، ومن هنا تعزز تيار الإستعمار الحديث فيما يتعلق لمعالجة مسألتي تونس والمغرب. فقد رأى التيار إن الحفاظ على الجزائر فرنسية يستلزم تطوير المفاوضات مع ممثلي الحركة الوطنية في تونس والمغرب بصورة تضمن تدجينها وتخليصها من أشد العناصر رادكالية.
بهذه الروح حرصت باريس في محادثات "إيكس – ليبان" التي تناولت المسألة المغربية على تمثيل كل التيارات، بما فيها تيار الإقطاع والذين تعاونوا مع الإستعمار حتى لا يظل حزب الإستقلال هو القوة السياسية الرئيسية إلى جانب السلطان المعنوي الذي كان يتمتع به محمد الخامس الطي لم يكن قد رحع بعد من منفاه.
وهكذا إستطاع النظام الفرنسي أن يتجنب، بفعل سياسته الإستعمارية الحديثة توحيد المغرب العربي في ظل المعركة، وذلك هو الذي يفسر في الوقت نفسه استمرار الخط السياسي الذي رسمه منديس فرانس في تونس بل تطويره رغم سقوط منديس فرانس، وذلك كله بهدف عزل الثورة الجزائرية مغربيا وحرمانها من قاعدة جهوية ضرورية لها. وبذلك تكون الثورة الجزائرية إذ ساعدت على الانضاج السريع لمشروع استقلال تونس والمغرب، قد تلقت رد فعل الانضاج في تزايد قوة الآلة العسكرية الفرنسية.
هموم الجزائر تدفع فرنسا إلى العدوان على مصر:
كانت الثورة الجزائرية تخوض بالوقت نفسه معركة شاقة على الصعيد الخارجي، وهي معركة زاد في تعقيدها انها كانت متعددة الأوجه: فقد كان على جبهة التحرير الوطني أن تتولى مهمة التعريف بالقضية الجزائرية ومهمة الاعلام بأنشطتها العسكرية في الداخل، ومهمة جمع المساعدات اللازمة من سلاح ومال ومن دعم سياسي، لكن من هي جبهة التحرير نفسها؟ إنها لم تكن معروفة كحركة بهذا الإسم قبل تفجير الثورة، وكانت هناك أسماء سياسية لامعة معروفة لم تكن تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الجبهة، فكان على الجبهة في الوقت نفسه أن تتولى مهمة التعريف بنظامها وبالمسار الذي أخذه بروزها، وبالعوامل التي حددت توجهها وبالأهداف التي تريد تحقيقها.
ومعنى ذلك كله أن مهمة الإعلام في الخارج كانت تعاني عمليا من أمرين: الأول مون إسم الجبهة جديدا، الثاني مونها تعمل بالخارج في ميدان بكر بالنسبة لها.
وزاد في صعوبة هذه المهمة إن الجمهورية الفرنسية كانت تسعى بجميع الوسائل لإبقاء جبهة التحرير غير معروفة، ولإحاطتها بسياج من العزلة الدولية يقطع عنها المدد الذي تنتظره، ولم يأل الإستعمار جهدا للتنفير من جهة التحرير وتحقير عملها، وخاصة في نظر الرأي العام الفرنسي وفي نظر الرأي العام الغربي.
فتارة يصف الجبهة بأنها حركة إسلامية هدامة منغلقة تعارض التحديث والتقدم وتريد أن ترجع بالمجتمع إلة وراء، وتارة ثانية تنعت بأنها حركة عرقية – عربية فاشية يغذيها التيار الناصري، وتارة ثالثة توصف بأنها حركة سياسية متطرفة على إتصال بموسكو.
وقد وقع الإعلام الإستعماري ضحية لأكاذيبه، عندما تصور أن توقف القاهرة عن الدعم السياسي سوف يخنق الثورة، ومن هنا كانت محاولات حكومة غي موليه مع مصر الناصرية عندما وجه وزير خارجيته قبل أن يسهم في العدوان الثلاثي عليها مدفوعا بهموم الحرب الجزائرية.
لكن الثورة الجزائرية كانت، قبل ذلك، قد حققت انتصارا هاما في المجال الدولي (علما بأن التعريف بها دوليا كان أحد الأهداف التي خطتها قيادة الثورة عشية إندلاعها) وذلك عندما حصلت جبهة التحرير الوطني على دعوة لحضور مؤتمر باندونغ. ولا حاجة إلى التذكير بأن باندونغ كان مشهدا تاريخيا سجل ميلاد العالم الثالث وأظهر في الوقت نفسه مدى قوته وإمكانياته، فقد حضره تسعة وعشرون بلدا بعد مجموعهم ما لا يقل عن مليار وثلاثمئة مليون نسمة. وزاد في قيمة حضور جبهة التحرير الوطني إن مؤتمر باندونغ صادق على توصية تؤيد حق الجزائر في الإستقلال وتطالب فرنسا بأن تعترف بذلك في الحال.
وهكذا خطت جبهة التحرير خطوة هامة في المجال الدولي، ولم تكد تمضي على توصية باندونغ خمسة أشهر حتى سجلت القضية الجزائرية رسميا في جدول أعمال الجمعية العامة المتحدة في سبتمبر 1955.
وقد تبدو هذه الخطوة صغيرة إذ نظرنا إليها من موقع اليوم، لكنها في الواقع كانت مكتسبا دوليا معتبرا، إذ أن النظام الفرنسي كان يعتبر المسألة الجزائرية مسألة داخلية بحتة، ولذلك كان يرفض دائما، في السنوات الأولى خاصة، أن يطلق إسم "الحرب" على المعارك الدائرة رحاها في الجزائر. كان يسميها عمليات بوليسية لحفظ ومطاردة المشاغبين. فظهور إسم الجزائر في الأمم المتحدة كان يعني أن الرأي العام الدولي لم يعد يعترف بالطابع الداخلي الفرنسي للمسألة الجزائرية، وإنه يعتبر كفاح الجزائر شرعيا من أجل الإعتراف بحقه في تقرير المصير.
خطأ استراتيجي فادح:
ان الكسب الذي حققته الثورة في المجال الدولي قد زاد في تعميق التناقضات التي كانت تتسم بها السياسة الفرنسية في المغرب العربي، ذلك أن المكاسب السياسية التي تحققت دوليا من شأنها أن تؤكد حق الجزائر في الاستقلال. كما أن الاعتراف باستقلال تونس والمغرب من شأنه أن يبرز تناضق السياسة التي ترفض أي حل لحرب الجزائر إلا على أساس بقاء الجزائر فرنسية. ومعنى هذا ان اعتراف فرنسا باستقلال تونس والمغرب، واصرارها على انكار أي حق للجزائر في الاستقلال والسيادة أوقع النظام الفرنسي في خطأ إستراتيجي فادح. وقد ترتبت على ذلك عدة نتائج لم يكن بد من أن تنعكس سلبا على الاستقلال الناشيء لجارتي الجزائر. لان التمسك بفرنسة الجزائر قد دفع النظام الاستعماري الى أن يحافظ على وجوده بصورة من الصور في كل من تونس والمغرب.
ففي المغرب كان الجيش الفرنسي يعد عام 1958 خمسة وأربعين ألف جندي من المشاة والدرك. أما سلاح الطيران الفرنسي المتمركز بالمغرب آنذاك فقد كان يعد 15000 موزعين على قواعد جوية في الرباط ومكناس وانغاد بالقرب من وجدة، وزيادة على الستين ألف جندي كان يوجد 3000 من البحرية يتمركزون في الدار البيضاء، وهذا زيادة عن خمسمئة ضابط فرنسي موجودين تحت ذريعة تدريب القوات المغربية الناشئة.
وقد استغلت قيادة الجيش الفرنسي بالجزائر هذا الوجود العسكري بالمغرب لتستعمله ضد جيش التحرير العامل في الغرب الجزائري، فقد قسمت هيئة أركان الحرب الفرنسية بوهران، منطقة الغرب الجزائري إلى أربع مناطق أضافت لها منطقة خامسة سمتها "منطقة عمليات المغرب الشرقي" يوجد مركز قيادتها بمدينة وجدة في المغرب، وعلى رأسها جنرال وعدة كولونيلات على اتصال مباشرة بقيادة وهران، ويستعمل مطار وجدة العسكري في توجيه عمليات الطيران الذي يضرب الغرب الجزائري.
وفي تونس كان يوجد نحو 22000 جندي يسيطرون على النقاط الستراتيجية التي يمكن أن تستعمل، عند الحاجة، في إعادة إحتلال تونس، كما كان يحلم بذلك عدد من الاستعماريين.
ويعد الجيش الفرنسي في شمال تونس 17000 جندي من بينهم عشرة آلاف في بنزرت. كما يملك محطات رادار في بنزرت وفي الوجه القبلي تستطيع توجيه عمليات الإنزال أن دعت الحاجة إلى ذلك.
وفي جنوب تونس تمركز نحو خمسة آلاف جندي يأتمرون بأمر جنرال مركزه في مدينة قابس. وهذا الجيش الذي يبدو قليل العدد مجهز بأحدث العتاد من طيران ومصفحات ومدافع متنقلة، وإذا كان وجود الجيش الفرنسي بشمال تونس مبررا – فرنسيا – بحماية الفرنسيين، فما هو مبرر وجوده بالجنوب؟ إنه يراقب فعلا مناطق العمليات في الجنوب الشرقي للجزائر.
وقد كان الجيش الفرنسي في الوقت نفسه يستعمل المعمرين الأوروبيين بتونس والمغرب عن التحركات التي يقوم بها المجاهدون الجزائريون في مناطق الحدود ولتقديم مختلف المساعدات للجنود الاستعماريين، وقد عثر جيش التحرير الجزائري عند جنود أسرهم في إحدى العمليات العسكرية على رسالة من الجنرال "غامبيير" (المقيم في تونس) يخبرهم فيها بأن هدايا عيد الميلاد (ديسمبر 1957) قد ساهم فيها المزارعون الفرنسيون المقيمون بتونس.
إن السياسة الفرنسية إذ بلغت هذا الحد من التناقض، أصبح محكوما عليها – طال الزمان أم قصر- بأن تنتهي إلى مأزق، فمن جهة لم يكن بد من أن يؤدي استقلال تونس والمغرب إلى مساعدة الشعب الجزائري المكافح بصورة أو بأخرى، ولم يكن بد من أن تتصل جبهة التحرير على التسهيلات لم تكن لتتوفر لها في حالة التحكم الاستعماري المطلق، سواء تعلقت هذه التسهيلات لم تكن لتتوفر الأسلحة، أو تنقل المجاهدين الجرحى والمتعبين عبر الحدود بحثا عن علاج أو إلتماس لإستراحة، أو إلتحاقا بمركز تكوين أو إيواء للاجئين ... الخ.
ومن جهة أخرى لم يكن بد من أن يتصور الاستعماريون، بحكم النظرة القصيرة، أنه لولا تلك التسهيلات لما إستطاعت الثورة الجزائرية أن تعيش، في حين أن تجارب سبقت في كوريا وفي فيتنام أكدت إستحالة منع الثوار أو خنقهم في الوقت الذي يتمتعون فيه بتأييد سكان الحدود والشعوب المجاورة.
وقد أدى هذا التناقض إلى سلسلة من الإعتداءات إرتكابها الاستعماريون، ضد تونس والمغرب بدأت محدودة ثم تصاعدت حتى بلغت الذروة في عام 1958، نتيجة الاصرار الفرنسي على مواصلة سياسة الهروب من السلم إلى الحرب.