الجاسوس
ويليام كامبيلز
إن أكثر الثغرات خطورة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، هي تلك الناتجة ليس عن نشاطات الـ "ك.ج.ب" سابقا بل عن مبادرات لموظفين سابقين بدافع من اعتبارات شخصية أو مالية.
إحدى هذه المبادرات كانت تلك التي قام بها ويليام كامبيلز.
كان كلمبيلز ولدا وحيدا ترعرع في ولاية انديانا تحت كنف والدته، بعد وفاة والده. عملت الوالدة في مطعم لإعالة طفلها و سخرت كل شيء في سبيل رفاهيته، شب كامبيلز رجلا وسيما و حاز على علامات جيدة من جامعة انديانا حبث كان معارفه يعتبرونه شابا ذكيا. و خلال سنته الدراسية الأخيرة، تقدم كامبيلز لمقابلة أحد مندوبي وكالة المخابرات، الذين يزورون الجامعات الأمريكية بصفة دورية لانتقاء أفضل الطلبة و ألمعهم و إغرائهم بالانضمام للوكالة، و أبدى كامبيلز رغبته في أن يكون جاسوسا.
سار الطلب في القنوات العادية، و أجري تحقيق أمني حول كامبيلز، كان على هذا الأخير الانتظار لأكثر من سنة حتى مارس 1977 ليبدأ عمله في وكالة المخابرات الأمريكية. كان أمله الالتحاق بالخدمة السرية التي تدير شبكة عمليات مخابراتية في العالم لكنه، بدلا من ذلك أرسل بعد تدريب قصير إلى مركز المراقبة في المقر العام يلانغلي في ولاية فرجينيا.
لا يخلو المركز المذكور من الموظفين على مدار الساعة و طوال أيام الأسبوع السبعة و مهمة هذا المركز هي تسلم تقارير دائمة من مراكز وكالة المخابرات المركزية في جميع أنحاء العالم. و مهمة الموظفين هي الإطلاع على هذه التقارير و إرسالها إلى المسؤولين الذين يحتاجون الإطلاع عليها. كما يحافظ مركز المراقبة على صلات الوكالة بالدائرة التي تربطها بالبيت الأبيض و وزارتي الخارجية و الدفاع، في حالات الطوارئ.
و يعتبر مركز المراقبة بالنسبة للبعض وظيفة مثيرة. لكن كامبيلز وجده مملا و مضجرا. كان يريد أن يصبح "جيمس بوند-007". لا الموظف ذا الرقم "ج.س.7" (أي خدمات عامة –7). و يبدو أنه ضجر من عمله و لم يكن على علاقة طيبة برؤسائه فلم يكن من كامبيلز إلا أن قدم استقالته في أوائل 1978،و هو لم يمضي على دخوله سلك الوظيفة أقل من سنة.
فكانت توجد في مركز المراقبة مكتبة للمراجع العلمية بمتناول جميع الموظفين. و بعض هذه المراجع يعتبر سريا للغاية و قد يترك في المكتبة لتسهيل فهم التقارير الصادرة عن مختلف الدوائر. و قبل بضعة أشهر من تقديم استقالته، اختلس كامبيلز أحد تلك المراجع و أخذه إلى شقته. كان هذا من المراجع الأساسية و له صفة "السرية للغاية".
بعد فشله في دخول ميدان التجسس و تحوله إلى عاطل عن العمل، قرر كامبيلز، في أواخر فبراير 1978، خوض مغامرة تثبت أنه يستطيع أن يكون جاسوسا حقيقيا. فتوجه إلى السفارة السوفياتية في أثينا و اقترح صفقة. كان يعتبر نفسه أنه يحمل وثيقة أمريكية سرية للغاية و يعرضها للبيع. كان الروسي الذي تحدث مع كامبيلز حذرا (المخابرات السوفياتية يقظة إزاء من يقتحم مكاتبها بهذه الطريقة، لأنه تبين أن الكثير من هؤلاء ينتمون إلى أجهزة مخابرات أجنبية مضادة)، فطلب مهلة لدراسة الوثيقة و حدد موعدا لكامبيلز في حديقة عامة بعد يومين.
كان ينقص ضباط المخابرات السوفيات المتواجدين في أثينا الاختصاص اللازم لتقييم الصفحات التي سلمها كامبيلز لهم. و ربما أيضا شك السوفيات في صحتها. و مهما كان السبب، بدأ السوفيات و كأنهم لم يفهموا مباشرة قيمة و أهمية ما في حوزة كامبيلز، إذ أن الروسي الذي قابله في الحديقة العامة، دفع فقط مبلغ ثلاثة آلاف دولار ثمن الوثيقة و ركز على إقناع كامبيلز بالعودة إلى وكالة الاستخبارات المركزية.
أما في مركز المراقبة، فقد أدرك المحللون بسرعة فقدان الوثيقة التي تعتبر إحدى أهم وثيقتين في الولايات المتحدة. فقد أعطى كامبيلز السوفيات مرجعا يكشف كيفية عمل القمر الصناعي " ك.5-11" التجسسي. فقد كان السوفيات يعتقدون بأن الأقمار الصناعية الأمريكية تعمل كأقمارهم، فترسل مجموعات من الصور تلتقطها إحدى الطائرات أو إحدى المراكز على الأرض ثم تحول إلى المختبرات لتظهيرها و تحليلها.
و لأشد ما كانت دهشتهم حين علموا أن القمر "ك.5-11" يرسل الصور بشكل دائم في الفضاء و مباشرة إلى الولايات المتحدة. و أي شيء قد تراه آلات التصوير في القمر يستطيع المحللون رؤيته مباشرة في واشنطن.
كما يرجع "ك.5-11" أمرا يدعو للذهول : لقد تلاعبت الولايات المتحدة طوال سنوات عدة بصور الأقمار الصناعية التي نشرتها حتى تضلل السوفيات في ما يتعلق بدقتها و جودتها. كان السوفيات قد أخفوا الصواريخ العابرة للقارات تحت شكل مداخن كبيرة في منشآت كيميائية أو صناعية أخرى. و بهدف خداع الأمريكيين، رسم فنانوهم الأشكال المخروطية حتى تبدو من الأعالي و كأنها فتحات مداخن. أما المرجع-(الوثيقة) فقد كشف السوفيات بأن آلات تصوير "ك.5-11" قوية لدرجة أنها تستطيع أن تميز هذه الخدعة و تكشف حتى رقائق الدهان الصغيرة على الأشكال المخروطية.
بعد شهر أو نيف بدأ المحللون الأمريكيون يشاهدون نشاطا جديدا و غريبا في الاتحاد السوفياتي. فعند اقتراب "ك.5-11" إلى أي مكان من الأراضي السوفياتية، يبدأ الروس بتغطية الأشياء و إدخال الطائرات إلى مخابئها و إخفاء الأسلحة بكل الوسائل، برغم أن اتفاقية "سالت-1" تنص على ألا يتدخل أي من الفريقين في "وسائل التحقق القومية" لدى الطرف الآخر، كالتجسس من الفضاء مثلا، عبر التمويه أو الإخفاء. بعدها علمت الولايات المتحدة، عبر أقنية التجسس لديها، بأن السوفيات يملكون مرجع "ك.5-11"، فاستنفر عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي في طول البلاد و عرضها لمعرفة كيفية حصول الـ "ك.ج .ب" سابقا على هذا المرجع.
لدى عودته إلى انديانا، وضع كامبيلز مبلغ الثلاثة آلاف دولار التي دفعها له السوفيات في حساب والدته بدل حسابه الشخصي. كان يعتبر نفسه جاسوسا ذكيا لا يمكن خداعه. فإذا كانت الأموال مزيفة، فاللوم سيلقى على والدته لا عليه هو.
و كان كامبيلز ذكيا بدرجة كافية ليعرف أنه إذا قبلت وكالة المخابرات الأمريكية طلبه للعودة إلى العمل، فسوف يتعين عليه الخضوع إلى جهاز كشف الكذب، و لن يستطيع تحاشي السؤال التقليدي حول ما إذا أقام أي صلات مع السوفيات. و بهدف تغطية نفسه، قال لجورج يوانديس، و هو ضابط مخابرات في الوكالة، أنه اتصل بالسوفيات في أثينا لإعطائهم معلومات مزيفة و تلقى منهم مبلغ ثلاثة آلاف دولار. و أردف قائلا أنه الآن في وضعية تمكنه من المشاركة في عملية لخداع السوفيات.
كان من إحدى نتائج هجمة مجلس الشيوخ على وكالة الاستخبارات الأمريكية في السبعينات، أن صدر أمر يمنع الوكالة من التحقيق مع أي مواطن أمريكي في الولايات المتحدة ما لم يكن من موظفيها. فاعتبرت الوكالة أن هذا الأمر يحول دون استجواب كامبيلز الذي لم يعد من موظفيها. و حتى أن تحظى بإثباتات تساعد مكتب التحقيقات الفدرالي، طلبت من يوانديس أن يأمر كامبيلز بكتابة رسالة تشرح نشاطاته. وصلت الرسالة، لكن يوانديس كان قد دخل المستشفى، فبقيت مغلقة لحين عودته إلى العمل بعد أسابيع عدة.
و بعد أن سمع مكتب التحقيقات بقصة كامبيلز، كلف أحد أفضل عملاء لديه في مكافحة التجسس باستجوابه. و عندها اعترف كامبيلز بكل شيء. و بالرغم من نفيه لكل اعترافاته فيما بعد، أدانته هيئة محلفين فدرالية بتهمة التجسس.