خطة السمكة الحمراء لاغتيال الرئيس الكوبي فدال كسترو
قصة الحرب السرية الأمريكية ضد كوبا
الحرب ابيولوجية التى هندستها وكالاة المخابرات الامريكية
وارين هينكل – وليم تيرنر
تقديم: مخائيل الخوري
الحرب السرية التي ما تزال الولايات المتحدة تخوضها للقضاء على فيديل كاسترو ونظامه في كوبا منذ انتصار الثورة عام 1959، بأساليب متعددة. وعلى مستويات مختلفة من العنف، موضوع خطير لم يحظ بالاهتمام ككل. برغم وفرة المؤلفات والمقالات حول تاريخ هذه الفترة. ولعل مرد ذلك إلى عجز عن تناول هذه الحرب السرية بجوانبها وتشعباتها الكثيرة بالدرجة الأولى، أو إلى تردد بذكر المحاولات الفاشلة والعودة إلى ذكريا مؤلمة، أو إلى تخوف من خرق قسم اليمين التي توجب التكتم بالنسبة للنشاطات السرية.
ولسد هذا الفراغ عمد وارين هينكل و وليم و. تيرنر، وهما ضابطان سابقان في أجهزة الأمن الأمريكية، إلى وضع مؤلفهما، الذي نعرضه للقارئ بإيجاز فيما يلي، بعنوان بارز هو "السمكة حمراء"، متبوع بعنوان تفسيري هو "قصة الحرب السرية على كاسترو"، من منشورات هارير و رو، نيويرك، عام 1981. ويوقول المؤلفان أنهما باشرا في أواخر الستينات، بهذا العمل التاريخي الشامل لهذه الحرب مستندين إلى مصادر رسمية وخاصة، منشورة، وغير منشورة، وإلى مقابلات شملت نحو مئتي شخص ممن اشتركوا بهذه الحرب السرية، ومن مستشارين للرئيس في البيت الأبيض، وعاملين حاليين أو سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية، وعاديين ومسؤولين كبار، أو متعاقدين للقيام بمهمات معينة، ورجال جيش، وسفراء، بالإضافة إلى محفوظات رسمية في واشنطن ومحاضر جلسات لجان الشيوخ بشأن الاستخبارات والاغتيالات، ومواد في جامعة كاليفورنيا تتناول الإجرام المنظم والنشاطات الاستخبارية، ووثائق لدى مكتب المباحث الاتحادي ووكالة الاستخبارات المركزية، وملفات عدد من رجال القضاء ومحفوظات الصحف في هافاناء وفي عدد من المدن في الولايات المتحدة، وأقوال كربين الأسلحة، وتناول بالتالي أضواء على عمليات التدريب والتمويل وتأمين الأسلحة وتناول بالتالي العلاقات بين الوكالة والمافيا، وفضيحة ووترغيت.
التدخل الأمريكي في كوبا ليس جديدا، ولا هو في الواقع نتيجة لانتصار في كوبا عام 1959 وحسب. فهو يعود إلى عهود رؤساء سابقين. على أن هذا التدخل بعد انتصار فيديل كاسترو هو أوسع المشاريع الأمريكية للتدخل في الستينات. فهو برنامج واسع شامل من حرب سرية ومغامرات عسكرية، وهجوم اقتصادي وسياسي….شمل عمليات عسكرية وحربا بيولوجية واغتيالات..بدأ في العام 1959، أثناء إدارة إيزنهاور، وبلغ ذروته شبه العسكرية في ظل الشقيقين كينيدي، وسكن في عهد ليندون جونسون، ثم حرك بقوة وتصميم في عهد ريتشارد نيكوسون. ولا تزال بقاياه ناشطة حتى الآن..
والمشروع بعد ذلك قامت به أطراف مختلفة: البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية، والمافيا، ومجموعات متعددة من المنفيين الكوبيين، بواسطة الكوبيين عبر الوكالة حينا، أو بدونها حينا آخر، بمعرفة البيت الأبيض أو من غير معرفته، ومن غير أن تعرف مجموعة كوبية بما تقوم به مجموعة أخرى. يضاف إلى ذلك أن المافيا كانت تعمل في الوقت ذاته في خدمة هذا الطرف أو ذاك، وفي خدمة هذه المجموعة أو تلك. كذلك كانت لأصحاب الاستثمارات والمصالح المالية الضخمة وأندية القمار علاقاتها السرية، المباشرة أو غير المباشرة، بمختلف الأطراف والمجموعات في سبيل تنفيذ جوانب مختلفة من المشروع بالتعاون فيما بينها، أو بالاستقلال والتفرد.
وهكذا فإن تاريخ مشروع كوبا هو قصة حرب تخوضها الولايات المتحدة من غير أن يعلنها مجلس الشيوخ، أو أن تعترف بها واشنطون، أو أن تذكر الصحافة أخبارها. وهو أكبر نشاطات الولايات المتحدة السرية، وأكبر فشل منيت به وكالة الاستخبارات المركزية. إنه قصة فشل وتحذير: فشل في حصر نشاط الوكالة وتحذير من أن القيام بنشاطات سرية وخيم العاقبة. وقد تحول إلى نشاطات متراكمة من تجسس وقتل، وكان له علاقة باغتيال جون كينيدي، ثم بالتالي بفضيحة وترغيت. وأتاح المجال لتكديس ثروات هائلة..وتجاوزت نفقاته بليون دولار…وعرض النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة إلى الشبهات، وأفسد المؤسسات إلى حد أطاح برئيسين.
وطبيعي في هذا المجال أن لا يغفل المؤلفان ردود الحكومة الكوبية على "أسئلة معينة" طرحاها عليها، ولا تصريحات عدد من أنصار كاسترو، بحيث يصح القول أن هذه الدراسة جاءت شاملة، فيها الكثير من الموضوعية والدقة، وإذا كان الكاتبان لم يتوصلا إلا إيضاح عدد من النقاط فإنهما ألقيا ضوءا كاشفا على نقاط عديدة هامة في السياسة الأمريكية وعلاقاتها في أنحاء مختلفة من العالم، وبذلا جهدا في محاولة إظهار وجود معارضة لهذه السياسة، من حيث ما انطوت عليه من أسس الخلقية، غير أن قوة الجهاز الحاكم، أو المؤسسة ذات السلطة كانت بالنهاية على تجاوز المتمسكين بالخلقية والقوانين.
والكاتبان كانا يعملان ضابطين مسؤولين في أجهزة المخابرات والأمن الأمريكية وهما بذلك يتحدثان من داخل المنزل ويعرفان كل أسراره. وتزيد في خطورة كتابهما هذا أنهما لا ينتميان إلى الأجنحة الراديكالية أو اليسارية ولكنهما حتى الآن، ينتميان إلى المؤسسة الأمريكية وهما ينتقدان أعمالهما من هذا الموقع.
في عام 1959 أسهم ريتشارد نيكسون في وضع "مشروع كوبا" بصفته نائبا للرئيس. وقد كان لقضية كوبا في هذا الوقت دور أساسي في انتخابات الرئاسة. كان هم ريتشارد نيكوسون (الجمهوري) أن تتم الإطاحة بكاسترو قبل الانتخابات، تعزيزا لموقفه الانتخابي في حين أن المخططين لحملة منافسه الديموقراطي كينيدي كانوا يؤكدون أن أوضاع المنفيين لا تسمح بذلك. وف تموز/1960 عشية انعقاد مؤتمر تسمية المرشح الديموقراطي للرئاسة، هيأت وكالة الاستخبارات المركزية اجتماعا بين أربع من قادة الكوبيين في المنفى، مانيويل أرتيم، وطني فارونا، وأوربليانو سانشيز أرانفو، وجوزيه ميروكاردونا، ممن ستكون لهم أدوار رئيسية في حملة خليج الخنازير اللاحقة وعمليات الاغتيال والتخريب، سوالمرشح للرئاسة جون كينيدي لإطلاعه على خطة الحملة المرتقبة ضد كوبا. ثم أخذ جون كينيدي المرشح للرئاسة يتحدث عن وجوب دعم "القوات المحاربة من أجل الحرية في المنفى وفي جبال كوبا، ويدعو إلى تشجيع الكوبيين المحبين للحرية في مقاومة كاسترو منددا بتقصير إدارة إيزنهاور بالنسبة "لخطر الشيوعية" على مسافة تسعين ميلا فقط ودعا المخططون لحملة كينيدي إلى "تقوية القوات الديمقراطية المعادية لكاسترو، غير المنحازة لباتيستا، في المنفى وفي كوبا نفسها، باعتبارها الأمل المرتجى في سبيل القضاء على كاسترو. فقد كان هذا لكلام يجد صدى كبيرا داخل أمريكا ويساعده في حملته الانتخابية هنا وجد ريتشارد نيكسون نفسه مضطرا بحكم منصبه الرسمي كنائب لرئيس الجمهورية إلى أن يهاجم هذه الدعوة لنصرة المنفيين الكوبيين باعتبارها خطة "خطرة وغير مسؤولة" ووصفها بالتوصية الخيالية، التي تهدد بحرب عالمية ثالثة، بما تثيره من ضجة حول مهاجمة كوبا، ولو أنه في الواقع كان هو المهندس الأول في مشروع كوبا، أو كما قال في ما بعد أن "التدريب السري للمنفيين الكوبيين، على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية يعود "إلى جهودي بالدرجة الأولى".
ونجح جون كينيدي في الانتخابات وأصبح رئيسا للجمهورية وسرعان ما أعطى الضوء الأخضر للاستمرار في ما سموه مشروع كوبا.
المشروع..أمريكي
كان المشروع يفرض في الأساس عدم استخدام أي رجل أمريكي، أو أي طيران حديث، بحيث يبدو للعالم أنه عملية وطنية حقا يقوم بها الكوبيون أنفسهم بتمويل خاص. ولكن سوء ظن المخابرات الأمريكية بالكوبيين جعلها تسلم القيادة لضباط من مصلحة النقل البحري العسكري. والواقع أن وكالة المخابرات الأمريكية نهجت خطة تمييز عنصري بين الكوبيين والمدربين، حتى أن المسؤولين الأمريكيين فقط كانوا يطلعون على الخرائط في حين أن الكوبيين كانوا يجهلون القواعد التي يتدربون فيها، حتى جاءت الحملة أمريكية مائة بالمائة، باستثناء المقاتلين العاديين المجندين للاشتراك بالحملة كمرتزقة، وعدد من الأثرياء، ورجال الحكم السابق، ممن نقموا على النظام الجديد في كوبا. التخطيط أمريكي بالطبع، والقيادة أمريكية بالطبع أيضا.
وعمدت الوكالة إلى استخدام سفن شركة "يونايتد فروت" أي الفواكه المتحدة أحد أذرعها القديمة، لنقل الجنود والذخيرة إلى غواتيمالا، وجمعت أسطولا من نقلبات "غارليا" العاملة في تجارة السكر والأرز بين كوبا وبلدان أمريكا الوسطى، وحشدت قوة جوية في قاعدة إيغلين الجوية في فلوريدا من الطائرات العسكرية القديمة من طراز سي – 54 والطائرات المقاتلة بي 62، التي سبق استخدامها في نقل العملاء في أجواء الشرق الأوسط وحدود بلدان أوروبا الشرقية، مموهة لا تحمل أية علامة مميزة لها بقيادة طيارين عسكريين أمريكيين، إلا قلة من البولونيين واستكمالا لعملية التمويه والتضليل قيل للملاحين أنهم يقومون بمهمة في "خدمة الحكومة" وزودوا بمبالغ مالية كبيرة، ونهبوا إلى استخدام عنوان واحد محدد عند الاتصال بذويهم، كما نبهوا إلى أن العملية قد تستوجب إطلاق نيران. وإمعانا في التمويه بدأت أرقام رجال الحملة من العدد 6000 لاخفاء حقيقة عدد رجالها وبقي موعد الهجوم غير محدد بصورة نهائية.
إن ميامي البلدة الصغير في بداية هذا القرن، سرعان ما تحولت خلال نصف قرن تقريبا إلى مدينة ضخمة ذات مبان ومنتجعات فخمة، بفضل مئات الملايين المنهوبة من خزينة كوبا، وإلى قاعدة للمهاجرين الكوبيين الأثرياء، وباتت المحطة الكبرى في العالم لوكالة المخابرات المركزية: ودفعت برجالها لانفاق الأموال الطائلة. هنا انفقت الوكالة ما لا يقل عن خمسين مليون دولار للاستعدادات المحلية للهجوم، وبذلت لها مؤسسات ميامي التجارية والمالية والثقافية، حتى الجامعة نفسها، جميع الخدمات والتسهيلات الازمة، وأقامت مراكز للتدريب وللكشف عن إذاعات سرية مؤيدة لكاسترو. وبنت لها أكبر أسطول في الكاريبي من قطع بحرية مسجلة بأسماء مستعارة مجهزة بالرادار والأسلحة المتنوعة تحت غطاء القيام بدراسات بحرية كما أعدت قوات ومطارات جوية أيضا. وفي أيار/مايو 1920 جمعت المجموعات الكوبية المنفية تحت مظلة واحدة باسم "الجبهة الديمقراطية الثورية" ومولتها. وحرصت في كل ذاك أن لا تثير شكوك أبناء ميامي بإبقاء هذه النشاطات سرية، وبالمبادرة بسرعة للقضاء على أية ضجة لتجنب أية أزمة حتى أن الصحافة في ميامي أسهمت راضية ومتعاونة في هذه السرية.
وفي منزل لامرأة في العقد السابع من عمرها في ميامي، كان يلتقي عدد من المتقاعدين والمصابين بأمراض عقلية، إنتاجا للراحة والاستجمام. وفي هذا المنزل الذي كان يبدو كأنه مأوى، كان يعيش أستاذ مدمن على الشراب ويسعى لنسف زورق يوغسلافي يقوم بنقل الفوسفات بين كوبا والمكسيك، وقزم يقوم بأعمال التسلية بين المجموعة من نحو خمسين شخصا يتناولون طعامهم على دفعات. هنا كان يلتقي بعض رجال المافيا، ونفر من أصحاب السوابق، وعدد من الذين عملوا لوكالة المخابرات المركزية في السابق بالإضافة إلى مغامرين أطلقوا على أنفسهم اسم "فرسان الإقامة الداخلية" أو "جنود الخط العاشر" لاشتغالهم بالقضايا الخاسرة بحيث بات المنزل يبدو ثكنة أكثر منه مأوى.
ولم يقتصر ميدان النشاطات لتنفيذ المشروع على ميامي وحسب. فقد كانت للوكالة مراكز أخرى عديدة في أمكنة أخرى في الولايات المتحدة ونيكاراغوا. وغواتيمال وكوستاريكا، للتدريب على الطيران والهبوط بالمظلات وإطلاق النار على ايدي أمريكيين وفتحت دارها لاجتماعات الناقمين على نظام كاسترو لنقل الراغبين بالفرار إلى ميامي لتدريبهم، وكانت صلة وصل مع المقاومة الداخلية السرية باستخدام كلبها لنقل الرسائل والوريقات الإخبارية في فمه قبل أن اعتقلها رجال مخابرات كاسترو في تشرين الثاني /لورنزو، سكرتيرة كاسترو الخاصة، تعمل مخبرية سرية منذ أيار/مايو 1959. وقد نجح ضابط المخابرات الأمريكي فرانك سترجيس في تهريبها إلى ميامي ثم في إعادتها إلى هافانا متنكرة كسائحة أمريكية استطاعت أن تدخل شقة كاسترو في غيابه وأن تجمع ما تيسر لها من أوراق وخرائط وأن تعود إلى ميامي. أما فرانك سترجيس فكان يقوم بمهمات محددة للوكالة بنقل عملائها إلى سواحل كوبا، وتأمين الذخائر والامدادات لهم بواسطة الطائرات والسفن إلى نقاط معينة على الساحل مما كان يؤدي أحيانا إلى تبادل النيران مع خفر السواحل، ويوفر المناسبات لاتهام الولايات المتحدة أمام الصحافة بالاشتراك بهذه النشاطات التآمرية. كذلك كان يتلقى معلومات يوفرها له الدكتور خوان أورتا، أمين سر رئيس الوزارة، ويعمل على تشكيل فرقة من المتوطعين لغزو معسكر كولومبيا، أهم مراكز القوات الكوبية المسلحة وبتعاون مع سرجيو سانجينيس، منظم وحدة العملية 40، من مخبرين وسفاحين ورجال أعمال في أوساط المعارضة الكوبية، ويقوم بالإضافة إلى ذلك، بتنظيم اللواء الدولي المعادي للشيوعية من أمريكيين متطوعين، وأصحاب أندية القمار في كوبا، وأنصار باتيستا، مهيئا بذلك مجالات واسعة للوكالة لاختيار الإرهابيين المطلوبين.
حملة خليج الخنازير:
اقتضى الاستمرار بمشروع كوبا تشكيل لجنة خاصة في مجلس الأمن القومي للتنفيذ بدون الاضطرار للعودة إلى المجلس في كل حالة، حتى لا يتورط الرئيس بالذات ويوفر ما سمي: "قابلية التدخين" أيضا. أي أن الرئيس يمكنه الإدعاء بأنه لا يعلم! وفي 13 كانون الثاني يناير، 1960 عرض المشروع على هذه اللجنة، فعمدت اللجنة إلى إنشاء قوة تنفيذية للقيام بأي عمل ضروري في الصراع مع كاسترو. وفي التاسع من آذار عقدت هذه القوة التنفيذية اجتماعها الأول، وتم تقرير حرب سرية على كوبا، ووجوب القضاء على فيديل كاسترو وراوول كاسترو وتشيه غيفارا، بحجة وجود خطر قيام كوبا بعمل عدواني على الولايات المتحدة. وفي اجتماع مجلس الأمن القومي في اليوم الثاني تمت الموافقة على مشروع كوبا باسم "مكافحة الشيوعية الدولية" دعما لنشاطات وكالة المخابرات المركزية في هذا الإطار، وإقرارا لأية وسائل مهما كان نوعها لتحقيق هذا الهدف بغض النظر عن أية مفاهيم أو اعتبارات خلفية تقليدية.
وكانت نصيحة أحد ضباط المخابرات الأمريكية المسؤولين عن العملية، تقضي بعدم الاعتماد على انتفاضة شعبية لدعم الهجوم، بل بتدمير المواصلات الإليكترونية للحؤول دون اتصال قادة كوبا بالرأي العام الكوبي، وباغتيال كاسترو عند حدوث الهجوم كي تنهار القوات الكوبية بدون قيادة. والظاهر أن تسعى للحصول على الموافقة قبل الإقدام على أية عملية.
وفي هذا الإطار يعتقد البعض أن وكالة المخابرات المركزية سيدة نفسها، أو محكومة غير منظورة، مسؤولة أمام نفسها وحسب. وإذا كان الملاحظ أن الوكالة قد نشطت في عهد جون كينيدي، وصارت لها شبكة واسعة من منشآت عسكرية، وخطوط جوية، ومستودعات أسلحة، ومعسكرات تدريب. فالواقع أنها أداة بيد الرئيس، لا تقوم في الغالب بنشاط بدون أوامر مباشرة من البيت الأبيض، لاسيما وقد كان الشقيقان كينيدي على استعداد للقيام بكل ما يؤدي إلى التخلص من كاسترو ونظامه، حتى بالأساليب الجيمسيوندية الغريبة.
وفي القوت الذي كان الرئيس يصر فيه على عدم افتعال حادثة في قاعدة غوانتانامو (قاعدة بحرية أمريكية على الشاطئ الشرعي لكوبا مؤجرة للحكومة الأمريكية منذ بداية القرن) تبرير تدخل القوات الأمريكية، كان الرئيس، على ما يبدوا، يجهل أن الوكالة غارقة حتى الأذنين في محاولتين لاغتيال كاسترو، أولاهما بنقل الفريق المعد للقيام بالعملية إلى نقطة ساحلية بقرب هافانا، وثانيهما بالتعاون مع منظمة "يونيداد" السرية الجامعة لمجموعات كوبية مختلفة لدعم فريق من ضباط طيارين في القاعدة الجوية في هافانا لاحتلالها وإعلان العصيان بمساعدة إدارة الطلاب الثوريين، وفي 13 آذار / ماريس تمت لقاءات في ميامي جرى فيها تسليم المال والحبوب المسمومة من قبل رجال الوكالة بالإضافة إلى تنوع ماير لانسكي، زعيم المافيا في أمريكا وهو يهودي، بمليون دولار مكافأة لمن يغتال كاسترو، وبذلك بات المكلف بالاغتيال عميلا مزدوجا للوكالة وللمافيا معا.
في هذا الوقت كان عدد من رجال المافيا والوكالة في كوبا مهيئين للقيام بعملية الاغتيال وإثارة الناقمين على النظام الجديد، بينما كان رجال الأعمال في الخارج يتوقعون للشركات وأصحاب المصالح استعادة النشاطات الاستثمارية السابقة، على نحو ما قال ب. يوندا يراغا، رئيس شركة فرانسيسكو للسكر في شباط / فبراير عام 1961، للتأكيد على العلاقة بين الوكالة ورجال الصناعة والأعمال، والمعروف أن شقيقه كان عضوا في مجلس إدارة مصرف شرودر البريطاني المحدود، حيث كانت الوكالة تودع أموالا ضخمة بتصرف ألان دالس، وهو الذي تعود علاقته بالمصرف إلى عام 1927. كذلك أخذ عدد من المكلفين في الوكالة يشترون أسهما في شركات السكر بعد أن كانت أرباحها أخذت بالهبوط عند فقد مزارع كوبا، اعتقادا بأن عودة شركات السكر لأصحابها في مسألة وقت ولسوء حظهم لم تلبث أن انهارت أسعار هذه الأسهم غير أن حكومة كوبا قضت على المحاولتين في آذار / ماريس 1961.
في 3 نيسان / أبريل أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية ورقة بيضاء لتهيئة الرأي العام الأمريكي للحملة، وتطرقت فيها إلى الحديث عن الديمقراطية، وشجعت نظام باتيستا، واعتبرت حكومة كوبا خائنة للثورة الكوبية. أما دور الولايات المتحدة في إفشال نضال كوبا في سبيل الاستقلال والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فاكتفت الورقة بالاستشارة العابرة إليه بالاعتراف "بأخطائنا". وفي اليوم التالي أعطى الرئيس الضوء الأخضر في اجتماع مع مستشاريه.
وقبل الهجوم، بأسبوع رست سفينة "سانتا آنا" رافعة علم كوستاريكا، في قاعدة بحرية بجوار نيواورليانس متجهة نحو نقطة مجاورة لقاعدة غوانتانامو، حاملة جنودا ومقدارا من الأسلحة والذخيرة للقيام، على ما يظهر، بعمل تضليلي يبعد أنظار الوحدات العسكرية الكوبية عن خليج الخنازير. والواقع أن هذه القوات التي كان أفرادها يرتدون ملابس رجال ثورة كاسترو للتمويه استهدفت القيام بهجوم شكلي على قاعدة غوانتانامو وإظهار كاسترو معتديا، مما يبرر التدخل المباشر من قبل البحرية الأمريكية المتأهبة قبالة سواحل كوبا للانقضاض عليها بحال نجاح الخدعة، على أن يرافق ذلك اغتيال الشقيقين فيديل وراوول. وقد لجأت الوكالة إلى هذه الخدعة بدون إعلام الرئيس أو مناقشتها في اجتماع سابق، بعد أن تبين لها أن الشعب الكوبي لن يقوم بدعم الهجوم، وبعد رفض فكرة تعريض إحدى السفن الأمريكية للنسف بغية إثارة البحرية للتدخل المباشر متوقعة انسياق الرئيس مع الخطة فور المباشرة بها.
وفي ليل العاشر من نيسان جرى نقل رجال الغزو بالشاحنات ثم بالطائرات إلى نيكاراغوا. ولما أكد الرئيس في مؤتمره الصحفي في اليوم التالي أن الولايات المتحدة لن تقوم بتدخل عسكري في كوبا، رأت الوكالة في ذلك أسلوبا ممتازا للتضليل.
وفي التوجيهات النهائية لقادة الفرقة عمد رجل الوكالة إلى إيهامهم بتوقع دعم الطيران الأمريكي للحؤول دون وصول قوات كاسترو إلى خليج الخنازير، وإثارة حماسهم وشجاعتهم بحملهم على الاعتقاد بدعم الناس لهم في كوبا، مع العلم أن موعد الهجوم لم يكن معروفا من قبل القوات المهاجمة.
وفي صباح اليوم التالي حطت طائرة مموهة من الخارج في مطار "الوادي السعيد" في نيكاراغوا، تحمل مستشار الأمن القومي للرئيس ومسؤولا في الوكالة لإجراء "الكشف" النهائي.
هنا كانت الشائعات بشان غزو كوبا منتشرة بين سكان أمريكا اللاتينية. وكان طبيعيا أن تعلم حكومة كوبا بأمر الغزو لا سيما ولها عيون كثيرة. غير أنها لم تكن تعلم أن الانطلاقة ستكون من قاعدة "تايد" في بويرتو كابيزاس على ساحل نيكاراغوا على البحر الكاريبي، حيث استخدم مطار عسكري للقوات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية باسم "الوادي السعيد".
وطبيعي أن يتزايد تيقظ فيديل كاسترو إزاء ذلك، وقد أخذ ينام أثناء النهار ساهرا أثناء الليل لتوقعه الهجوم مع ساعات الصباح الأولى، إذ أن الأحداث المتوالية من تشكيل المجلس الثوري الكوبي في الخارج، وورقة كينيدي البيضاء، وتسرب الأنباء عن الأسلحة والتدريب، كانت في نظره حافزا للمزيد من اليقظة. والواقع أن هذا الاحتراس الشديد كان واضحا لا سيما بعد إنزال مجموعة من المنفيين في 20 آذار / ماريس، واعتقال رجال المقاومة الذين كانوا بانتظار المجموعة ثم مطاردة مجموعة سفن في 5 نيسان / أبريل للحؤول دون إفراغ حمولتها المقاومة والسلاح.
غير أن هذه اليقظة الشديدة لم تئن الوكالة عن نشاطها.
وحين كان رجال فرقة المقاتلين ينزلون إلى السفن في بويرتوكابيزاس لنقلهم إلى خليج الخنازير، كان الجنرال لويس ساموزا، حاكم نيكاراغوا، في وداعهم، يوجه إليهم تحية التشجيع والتوفيق والعودة بشعرتين من لحية كاسترو، بينما كان رجل الوكالة يسر إلى قائد الفرقة سرا يقضي بوجوب الاستمرار بالحملة بحال تلقيه رسالة لاسلكية تدعو إلى العودة وعدم التقدم، وبإلغائها متنبها للحملة. غير أنه لم يذكر له أن الرئيس كينيدي احتفظ لنفسه بحق إلغاء الحملة قبل 24 ساعة من مباشرتها وبأن الوكالة وحدها لها الحق بتبليغ هذا القرار.
وصلت القوات المشحونة على سفينة "سانتا آنا" في منطقة بجوار باراكووا في أوربانتيه، ليل الخامس عشر من نيسان. وبعد إبلاغ الطيارين بالإدعاء بأنهم طيارون فارون من قوات كاسترو الجوية بحال اسقاطهم خارج كوبا، أقلعت تسع طائرات من طراز 26، من أصل 13 طائرة، من مطار "الوادي السعيد" مشحونة كبيرة من القنابل والصواريخ لقصف المطارات والمعسكرات الكوبية التي كانت طائرات يو ـ 2 قد التقطت رسومها من الجو. غير أن كاسترو كان آنذاك يهرع إلى معسكر كولومبيا بجوار هافانا، ويعلن حالة التأهب، ويوجه فوجين إلى منطقة باراكووا، ثم يعلن وقوع العدوان بهدوء، وهو يسمع انفجارات القنابل الجوية ونيران الأسلحة المضادة.
وبعد خمس ساعات حطت طائرة من طراز ـ26 في مطار "كي وست" للقوات البحرية الأمريكية وأخرى مماثلة في مطار ميامي الدولي، بينما هرع الناطق باسم مجلس الثورة الكوبي في الخارج، بناء على اتصال من وكالة المخابرات المركزية، للإعلان باسم رئيس المجلس أن طيارين فرا من قوات كاسترو الجوية بعد قصف المطارات الكوبية. والواقع أن تمثيلية الفرار هذه كانت مديرة من قبل الوكالة حتى أنها أمرت بإطلاق النار على الطائرة عند إقلاعها من مطار "الودي السعيد" اتفاقا للتمثيلية.
وسرعان ما وقف مندوب كوبا في هيئة الأمم المتحدة يتهم الولايات المتحدة بدعم "هجوم جبان مفاجئ" بواسطة مرتزقة مدربين على أيدي "خبراء البنتاغون ووكالة المخبرات المركزية". مضيفا أن الهجوم أدى إلى سقوط سبعة قتلى وعدد كبير من الجرحى. أما مندوب الولايات المتحدة الذي سبق للوكالة أن أعلمته باستعدادات المهاجرين العسكرية، نافية تورط الولايات المتحدة فراح يعوض بحرج صورة طائرة ب ـ 26 التي حطت في مطار ميامي وعليها علامة قوات كاسترو كذلك بادرت الصحافة بوجه عام إلى نشر الأخبار كما أذاعتها وكالة المخابرات المركزية، ولو أن عددا من رجال الصحافة تنبه إلى الفارق بين واجهات طائرات كاسترو وواجهات طائرات ب 26 الأمريكية.
ودلت الرسوم التي التقطتها طائرات يو –2 بعد المحاولة الأولى. إن المحاولة الأولى لم تدمر قوات كاسترو الجزية، فقررت الوكالة توجيه ضربة اخرى فجر السابع عشر من نيسان. وهنا حدث ما أدى إلى اتهام الرئيس بالتراجع وبإفشال الحملة، ونشأ نقاش بشأن تفسير موافقته السابقة. ورأى البعض أن الموافقة قضت بالقضاء على قوات كاسترو الجوية من غير تحديد عدد الضربات في حين أن المسؤول بغياب ألان دالس الموجود في بورتو ريكو لإبعاد الشبهة رأي أن الموافقة أقرت ضربة واحدة وحسب، وطلب التريث ريثما يتم الاتصال بالسلطات العليا. وإزاء الأصداء التي تركتها المحاولة الأولى، حين نفى كاسترو فرار أحد من طياريه، واتهم الولايات المتحدة بالنفاق والوقوف وراء الخدعة، ونوهت موسكو وبكين بخطورة الغزوة على السلام العالمي، شعر الرئيس، على ما يبدو، باستحالة تغطية محاولة جديدة بالأسلوب ذاته، ورفض الموافقة على ضربة تالية، لا سيما بعد أن نشرت "ذي نيويورك تايمس" مقالا فتحت فيه ثغرات في حكاية الفرار.
وبرغم رفض الرئيس كينيدي واستهجانه أن تتحول موافقته على دعم سري لمحاولة للمنفيين إلى تدخل أمريكي كامل، استمرت محاولات الإنزال في نقاط على الساحل، لا سيما عند خليج الخنازير، من قبل الوكالة، أو من قبل مجموعات أخرى، متعاونة، أو غير متعاونة. وتصدت لها قوات كاسترو بنجاح، وأسقطت طائرات أمريكية، وباتت قوات كاسترو الجوية سيدة الجو، كما أصبح إمداد قوات الغزو بالتمويه والعتاد مستحيلا. ولإنقاذ الموقف وجد الرئيس جون كينيدي نفسه مضطرا للموافقة على تغطية هجوم مع الفجر مدى ساعة واحدة شريطة أن تمتنع القوات الأمريكية عن إطلاق النار ما لم تتعرض إلى القصف المباشر. ولكن هذه التغطية لم تفد، حتى أن القوات الجوية المستعارة من نيكاراغوا لم تحل دون إلقاء الغزاة في البحر بحيث كان على الرئيس أن يصدر أمره هذه المرة للبحرية لانتشال المهاجمين الفارين من المياه.
في حين كان الرئيس جون كينيدي يستقيل أعضاء "الحكومة الكوبية" المحتجزين للتخفيف من وقع الهزيمة (وهي الحكومة المؤقتة التي أعلن عنها ساعة الغزو) صدر بلاغ باسم هذه الحكومة ينفي أن تكون المحاولة هجوما ويصفها بالعملية التموينية للمقاومة في كوبا ويحيى..البطولة..وفي حين قيل أن العملية فشلت لأنها كانت سلسلة من "أخطاء". فإن ألان دالس وقف أمام رجال الصحافة بعد بضعة أسابيع ينفي أن يكون قد توقع "انتفاضة شعبية" دعما للهجوم، وينسب الفشل إلى "شيء آخر" لم يتم. والوقع أن حكومة كوبا المؤقتة كانت في هذه الفترة محتجزة في فندق في نيويورك، ممنوعة من الاتصال بالخارج، إلا برجال الوكالة، مما حال دون اتصال رجال الحكومة بالعملاء المتربصين في الداخل، بينما كان أحد رجال الوكالة يضع نصوص الدستور الجديد لاعتماده بحال نجاح الحملة.
هكذا انتهت المرحلة الأولى بفشل ذريع…
وفي هذه الأثناء كانت طائرات سي – 46 تقلع من مطار "الوادي السعيد" حاملة إلى البحر صناديق من نشرات وعدت الكوبيين بالحرية. بينما كان آخرون من رجال الوكالة يدفنون الوثائق في حفرة في قاعدة تراكس، ويدمرون المعسكر بما في ذلك المنشآت الاسمنتية. وفي ميامي عمل رجال الوكالة على إسكات أقرباء رجال الفرقة بإثارة قضيتي الأمن القومي وتحرير كوبا، في حين قامت المؤسسات ذات العلاقة بإخفاء أي أثر يدل على إسهامها بالعملية، وراحت واشنطون ترسل الشيكات للأرامل اللواتي سكتن على وصم أزواجهن بالمرتزقة. أما المفتش العام للوكالة، الجنرال ليمان كيركباتريك فوضع تقريرا لا يزال سريا عزا فيه الفشل إلى "العملاء السود" وحل ألان دالس مسؤولية بالفشل، إذ أن كوبا كانت كلها تدعم كاسترو. أما المقاومة له فلم يكن لها وجود إلا في ميامي.
- الضربة الكبيرة – عملية النمس
وفي اليوم التالي لحملة خليج الخنازير كان الرئيس كينيدي يتحدث إلى ريتشارد نيكوسون، وقد غلب عليه التشاؤم صابا جام غضبه على الخبراء العسكريين ورجال وكالة الاستخبارات الذين أكدوا له نجاح الحملة طالبا منه رايه في الخطوة التالية. وسرعان ما رد عليه واضع مشروع كوبا بالاستمرار بالعملية مؤكدا له أن هناك مبررات كثيرة منها حماية المواطنين الأمريكيين في كوبا، أو الدفاع عن قاعدة غوانتانامو. فهز كينيدي برأسه متخوفا أن يرد السوفيات على احتلال كوبا بالاستيلاء على برلين. وفي وست بالم ببتش كان الأب كينيدي يقول لابنه جون كينيدي الرئيس أنه هو الذي نسف المشروع، حاقدا على كاسترو لفقد مصنع الكوكا كولا، معتبرا أن رجال وكالة المخابرات المركزية غير جديرين بالثقة الموضوعة بهم.
لقد كانت الولايات المتحدة مصممة على تصفية حساباتها مع كاسترو. وقد جاء الفشل في حملة خليج الخنازير حافزا لاجتماعات ومناقشات طوال شهر أيار/ مليو، 1961 حول الخطوات الصحيحة الناجحة بعد أن أكد الجنرال إدوارد لانسدايل، قائد المرحلة الجديدة في تنفيذ مشروع كوبا، أن التاريخ علمه أن هناك محاولة ثانية أثر كل فشل. ثم أن هذا الفشل اساء إلى الرئيس من جهة، وإلى الحزبين السياسيين الكبيرين في الولايات المتحدة بحيث كان لابد من الثأر لذلك، بشيء من السرعة.
إن مثل هذا التصرف العاجز الذي أدى إلى هذه النتيجة لم يكن بالأمر الذي يطاق. وسرعان ما تبين أن وكالة المخابرات المركزية لعبت دورا مزدوجا، إذ أنها أوهمت البيت الأبيض بأن الحملة ستؤدي إلى انتفاضة شعبية داخلية في حين أن دراسة لخبراء في الوكالة نفسها، في أواخر 1960، لم تشر إلى احتمال انقلاب الكوبيين على كاسترو يضاف إلى ذلك أن الوكالة خدعت البيت الأبيض بالنسبة لاستعدادات القوات الكوبية وإرادتها القتالية، وخالفت تعليمات الرئيس بشأن عدم استخدام أي أمريكي في الحملة. كذلك تبين أن الوكالة كانت تنوي الاستمرار بالمشروع حتى مجال إلغائه من قبل السلطات العليا، منطلقة به من نيكراغوا. غير أن الشيء الذي لم يشر غلي ألان دالس أنذاك هو علاقة الوكالة والمافيا لاغتيال كاسرو.
إزاء ذلك تم إنشاء هيئة لدراسة قضية كوبا برئاسة الرئيس جون كينيدي نفسه. وهنا وضعت هذه الهيئة الدراسية تقريرا لا يزال جزء منه سريا، وأوصت فيه بإعادة النظر بالوضع الكوبي على أساس العوامل المعروفة ووضعت توجيها جديدا للقيام بعمل سياسي وعسكري واقتصادي وإعلامي ضد كاسترو. واقترح كاتب التقرير، الجنرال ماكسويل تايلر، إجراء تعديل جذري لخوض الحرب الباردة، على جميع الجبهات إذ "أننا في حرب حياة أو موت". ودعا الرئيس إلى إعلان حالة الطوارئ لإعادة النظر في الاتفاقيات التي تحد من "الاستخدام الكامل لمواردنا في الحرب الباردة". غير أن الرئيس اكتفى من ذلك بإعادة تنظيم الحرب الباردة. وطلب معرفة ما يتوفر من موارد وقوى عسكرية وشبه عسكرية، وإلى تقييم أوضاعها وكفاءاتها، واحتمالات التحسين وإلى ممارسة القدرة القيادية الواسعة، الدينامية، في إنجاح مخططات الحرب الباردة وكرر ضرورة التكتم، ومجال التنصل بالنسبة للعمليات السرية، ووضع أية عملية تستلزم دعم القوات المسلحة تحت قيادة البنتاغون.
أما بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية التي أراداها في خدمة المخططات الواسعة في العالم فعمد تعزيزها برغم الاستيلاء من ازدواجيتها ووضعها تحت السيطرة بتعيين شقيقه روبرت، المدعى العام، مسؤولا عن الحرب السرية.
وأما بالنسبة للمنفيين فراح البيت الأبيض يواصل التلويح بهجوم جديد على كاسترو. وفي الرابع من أيار / مايو خرج رئيس مجلس كوبا الثورية، خوسيه ميروكاردونا من اجتماعه بالرئيس باسما، يعلن أن الرئيس قطع له عهدا بالقيام بغزوة جديدة لكوبا. ويذيع بعد اجتماعات تالية أن الولايات المتحدة ستقدم المال والخبراء العسكريين لتدريب قوات المجلس وتهجيرها، وستنظم عمليات التخريب في داخل كوبا وتشجع وحدات العصابات بحيث تقوى إلى حد كاف للاسهام بالضربة الكبيرة، حين يأتي موعدها.
والطريق أن الرئيس كينيدي أخذ رأي الكاتب المشهور أيان فليمنغ، مؤلف روايات جيمس يوند، في محاربة فيديل كاسترو! ونصائح فليمنع هي التي أعطت العملية الجديدة اسمها المتألق "الإغراق بالأضواء".
أما منظم هذه الخطة الجديدة فهو "الأمريكي البشع" نفسه الجنرال إدوارد ج. لانسدايل الذي وصفه غراهام غرين في قصة الأمريكي الهادئ بسفاك الدماء ومثير الفوضى. لقد كان بالنسبة للرئيس جون كينيدي الرجل المناسب في الوقت المناسب "لاستخدام العبقرية الأمريكية" للقضاء على فيديل كاسترو بإنشاء قيادات كوبية في أوساط المنفيين "القاعدة السياسية التي لابد منها"، وتوحيد وسائل التسلل إلى كوبا بنجاح وتنظيم الخلايا والنشاطات في الداخل بحيث يتم سقوط نظام كاسترو بواسطة الشعب الكوبي نفسه لا بواسطة جهود أمريكية مديرة من الخارج. ومثل هذه الخطة مناسبة للرئيس كينيدي لتجنب الاحتكاك مع روسيا حول برلين. عند ذاك عمد الرئيس إلى الاستغناء عن دالس وعن عدد آخر من رجال الوكالة ممن كانت لهم علاقة بفشل حملة خليج الخنازير وأصدر في الثلاثين من تشرين الثاني / نوفمبر 1961 مذكرته القاضية باستخدام كل قدراتنا المتوفرة لنا..لمساعدة كوبا للإطاحة بالنظام الشيوعي"، أو لتنفيذ ما سمي بعملية، النمس". وفي شباط / فبراير 1962 تسلم ريتشارد م. هلمس مهمة تنفيذ المشروع.
القاعدة
على مقربة من جامعة "ميامي" تقع بقعة أرض واسعة. وقد وضعت على أول الطريق إليها يافطة كتب عليها" منطقة صيد ملك خاص. الدخول ممنوع. ولم تكن هذه البقعة غير معسكر للوكالة، أو قاعدة لعملية "النمس"، هي في الواقع إحدى مراكز الوكالة وأكبرها لجمع المعلومات وتشجيع موظفي حكومة كوبا ورجالها على الانقلاب على النظام الكوبي وتأليب البلدان الأخرى على معاداة كوبا. وفي حرم الجامعة بالذات كانت مكاتب الوكالة ومكاتب هيئات ومؤسسات وهمية في خدمتها، ومساكن الموظفين والعملاء، وعلى مسافة غير بعيدة تقوم مدرسة للتدريب.
هنا كان يجري اختيار الكوبيين المنفيين المناسبين بمعدل ألف منهم كل شهر تقريبا، بعد التأكد من اتجاهاتهم وعلاقاتهم و"أمانتهم" قبل قبولهم في الخدمة ومنحهم الهويات أو الأسماء المناسبة للعمل في الظاهر في مؤسسات ومصالح معدة خصيصا للتغطية والتضليل. وفي أيلول / 1961 نقلت محطة البث السرية الخاصة بالوكالة من جزيرة "سوان" إلى ميامي. كذلك أعدت الوكالة مجموعة خاصة بها من السفن والزوارق للنقل بأسماء مؤسسات وهمية ينسب إليها القيام بأعمال ونشاطات مشروعة عملية أو فنية أو تجارية. وهنا أيضا تم تطويع كوبيين منفيين في فريق "الضفادع" للتخريب، باسم مصلحة هندسية وبأجور محددة تدفع لهم عبر مصرف في أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأمريكية.
وطبيعي أن تكون الترتيبات دقيقة تتعمد أن لا تترك شاردة أو واردة. وطبيعي أيضا أن يقوم تعاون تام بين السلطات المحلية والاتحادية والوكالة بخصوص نقل المتفجرات والأسلحة وتزوير بيانات المداخل، وتجاوز قوانين السلامة الصحية وأمن الطرقات، حتى خرق القوانين أو وقف تنفيذها بالنسبة لمخالفين معينين، أو لمواعيد إقلاع الطائرات التابعة للوكالة. كذلك كانت صحافة "ميامي" متعاونة بالصمت حينا، أو بنشر الأنباء التي تزود بها وحسب.
وكانت دراسة طبيعة الدفاع الكوبي وفعاليته أمرا هاما. لذلك كان هناك مكلفون معينون للقيام بتحليقات جوية لالتقاط بعض الإشارات لتحليلها، أو لالقاء النشرات فوق كوبا لدعوة الأهالي لتشكيل "خلايا مقاومة" داخلية. وفي 14 كانون الأول ديسمبر، 1961، انتهت احدى هذه المحاولات بكارثة. كذلك كان هناك مكلفون للقيام برحلات بحرية بالزوارق والسفن للغرض ذاته، أو لنقل الأسلحة والمخربين.
ولكن هذه العملية لم تبدأ بداية ناجحة. فقد حشدت الوكالة بقايا فرقة الهجوم السابق على خليج الخنازير في قاعدة بقرب "كي وست" ودفعتهم لتدمير محطة السواحل واضطرار المخربين للعودة بدون الاصطدام بهم كي لا تبدو العملية خارجية. كذلك فشلت محاولة ثانية لتدمير مجمع منجم للنحاس في "ماتا هاميرا" لضرب الاقتصاد الكوبي.
لم تكن هذه الأساليب كافية بالنسبة لرئيس ولشقيقه. وفي مطلع عام 1962 أخذ الشقسقان يحثان على بذل المزيد من النشاط وتم إنشاء هيئة خاصة ذات مهمة وحيدة هي معالجة قضية كوبا. وأعلن روبرت كينيدي أن حل قضية كوبا يأتي في الطليعة من اهتمامات الولايات المتحدة ودعا إلى عدم توفير أي مال أو جهد أو وقت في هذا السبيل في حين راح البيت الأبيض يشدد الخناق على الاقتصاد الكوبي، وعمد العملاء إلى الضغط على مؤسسات الشحن الأوروبية لوقف الشحن إلى كوبا واقناع أصحاب المصانع بإرسال بضائع أخرى غير المطلوبة إلى كوبا، أو بتخريب السيارات المعدة للشحن إليها.
وفي مساء الرابع والعشرين من آب / أغسطس، 1962، تمكن زورقان بخاريان يحملان سلاحا وعددا من أعضاء هيئة الطلبة الكوبيين من النجاح باختراق شبكة الرادار الكوبية بقصد القضاء على كاسترو وهو في اجتماع عام. مرة اخرى انكشفت المحاولة، وعاد الزورقان إلى القاعدة في "ماراثون كي" في فلوريدا، واتهم كاسترو الولايات المتحدة بالاشتراك بالمحاولة لاغتياله بينما ردت وزارة الخارجية على ذلك بأنها محاولة فردية.
والواقع أن للهيئة الطلابية علاقات بالوكالة وبالمقاومات السرية مفيدة في جميع المعلومات عن الوجود الروسي في كوبا. وفي حين كانت تجري محاولة ثانية في خريف 1962 لتدمير مناجم النحاس في "ماتا هاميرا" كانت طائرات يو- 2 تلتقط رسوما للدفاع الكوبي من الجو، وكان الرئيس جون كينيدي يعلن الحصار على كوبا، ويدعو الاتحاد السوفياتي لإزالة الصواريخ من كوبا. هنا اطمأنت الوكالة إلى أن غزو كوبا من قبل القوات الأمريكية المسلحة بات وشيكا بعد إعلان حالة الاستعداد للقتال، واجتمع قادة المجلس الكوبي بمندوبي البنتاغون. وبعثت الوكالة بعملائها إلى كوبا ليكونوا على استعداد لدعم العمليات العسكرية الأمريكية.
ولكن أزمة الصواريخ هذه انتهت بإزالتها مقابل تعهدات من قبل الرئيس كينيدي بوقف الأعمال العدائية ضد كوبا. وحمل كاسترو هذا التعهد محمل الجد وراح بعيد تنظيم دفاعه على أساس توقع الخطر المقبل من الداخل، لكن وزارة الخارجية الأمريكية كانت تعتبر التعهد لاغيا على حد قول دين راسك في 11 كانون الثاني، 1962، بحجة رفض كاسترو إجراء كشف على المواقع للتثبت من سحب الصواريخ، مما كان منسجما مع نية الرئيس كينيدي بعدم التقيد بالتعهد.
حقا إن عملية "النمس" انتهت. ولكن الرئيس كينيدي غير راض عن الاستعدادات لها. وقد عبر من ذلك في اجتماع اللجنة الخاصة بكوبا عشية أزمة الصواريخ، ولذلك قرر توجيه المزيد من اهتمامه الشخصي بالقضية وإنشاء لجنة تنسيق للقضية الكوبية لتنظيم العمليات السرية، كما شكل لجنة دائمة في مجلس الأمن القومي لتحديد العمليات المقبلة في الحرب السرية برئاسة شقيقه بالذات.
خطورة سياسة رشوة وتزوير
وفيما كانت العمليات التخريبية والهجومية تتواصل، وكانت الإعدادات لعمليات أخرى مستمرة، كانت هناك خطورة سياسية تخطوها الولايات المتحدة لعزل كوبا سياسيا.
في صبيحة أحد أيام شباط / فبراير، عام 1962، نشرت صحيفة "إيل ديا" في "بونتا ديل استيه" خبرا جاء فيه أن سفير الولايات المتحدة إلى منظمة الدول الأمريكية، دي ليسبس س. موريسون، قدم فاتروة حساب لنفقة يوم واحد دون فيها مبلغ تسعة دولارات ثمن إفطار وغذاء وأجرة سيارات تاكسي، وخمسة ملايين دولار لعشاء مع وزير خارجية هايتي. والحقيقة أن هذا المبلغ المقدم لبناء مطار حديث في "بيروت أو برنس" كان رشوة لهايتي للتصويت على إخراج كوبا من المنظمة في محاولة يقوم بها نسيب لفرديناند دي ليسبس الذي شق قناة السويس وحاول شق قناة باناما، وسفير أرمل يقضي بعض لياليه في العلب الليلية، لعزل كوبا عن دول أمريكا اللاتينية.
وفي آب / عام 1961 كان موريسون على رأس وفد الولايات المتحدة إلى مؤتمر أمريكي في "بونتا ديل استيه" في الأوروغواي للشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأمريكية لمناقشة موضوع إنشاء حلف للتطور وعد به الرئيس الأمريكي لمساعدة "الأحرار والحكومات الحرة لكسر قيود الفقر" عبر عون اقتصادي بالغ بليون دولار في السنة الأولى، بامل وقف الشعور المتزايد في أمريكا اللاتينية بأن "الفلاح الكوبي حقق مكانه في الشمس".
وفي هذا المؤتمر قدم تشيه غيفارا صندوقا من السيجارات لأحد كبار أعضاء الوفد الأمريكي مع بطاقة كتب عليها باللغة الإسبانية أنه يعد يده للعدو. وفي احتفال إقامة مندوب البرازيل بعد ذلك اجتمع تشبه غيفارا بهذا العضو في غرفة على حدة وسأله وهو يبتسم: "هل نجتمع كعدوين في بلاد محايدة أم كشخصين يودان مناقشة مشكلة مشتركة؟" ورد العضو الأمريكي: كعدوين. إنما يجب أن أذكرك أنني لست مخولا بالتحدث إليك باسم الرئيسي كينيدي ولا باسم الشعب الأمريكي. وهذا طلب تشبه غيفارا منه أن ينقل شكره للرئيس لأن حملة خليج الخنازير رسخت قبضة كاسترو بعد صد أكبر دولة في العالم. هنا اقترح عضو الوفد الأمريكي عليه أن يقوم كاسترو بالاستيلاء على قاعدة غوانتانامو لإعطاء الرئيس حجة علنية لاستخدام قوة أمريكا العسكرية. فرد تشيه غيفارا أن كاسترو ليس غبيا إلى هذا الحد، وعبر عن استعداد لمفاوضة الولايات المتحدة بدون شروط مسبقة وبتعهد بعدم شن هجوم آخر عن كوبا. ثم انتهى اللقاء.
وفي اجتماع سري مع رئيس الأرجنتين عاد تشيه غيفارا إلى الدعوة للتعايش، غير أن المؤتمر قبل حلف التطور المقترح ولكن المندوب الأمريكي نبه إلى ضرورة عدم انفاق أي قسم من المساعدة المالية في كوبا. وعاد العضو الأمريكي إلى واشنطن وأبلغ الرئيس الأمريكي ما جرى له مع تشيه غيفارا. وقدم له هدية السيجار، فأخذ واحدا منها واشعله، ثم راح ينفث دخانه وهو يقول "كان يجب أن تكون أنت الذي يدخن السيجار الأول".
وفي يونس إيرس تقدم القنصل الكوبي فيتانيو دي لاتوريه باستقالته فجأة حاملا معه 82 وثيقة من السفارة الكوبية وسلمها إلى ممثل المجلس الثوري الكوبي على أنها تفاصيل مشروع موضوع في هافانا للإطاحة بحكومة الرئيس أرتورو فرونديزي في الأرجنتين بواسطة نشاطات تجارية وسياسية وبتدريب رجال عصابات. وقرر المجلس استغلال هذه الوثائق إلى أقصى حد أثناء زيارة فرونديزي إلى الولايات المتحدة وقامت جريدة "لاناسيون" الصادرة في يونس ايرس بنشر مقال مفصل عنها مرفق بصورها، مما أثار عاصفة من الاحتجاج على كوبا برغم إعلانها أنها وثائق مزورة من قبل منفيين كوبيين بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية. والواقع أن التزوير تم "لاثبات" قيام كاسترو "بتصدير" الثورة بغية تسهيل محاولة عزل كوبا وإخراجها من منظمة الدول الأمريكية، وذكرت مجلة "أفانس" الناطقة باسم الكوبيين في المنفى أن القنصل كان يتعاون مع الكوبيين المنفيين في الأرجنتين.
ولم تقتنع الحكومة الأرجنتينية بما أعلنته حكومة الولايات المتحدة من صحة الوثائق وأصدرت على التثبت من ذلك بنفسها. وتبين لها أنها مزورة في الوقت نفسه الذي أصدرت فيه حكومة كوبا إثباتها للتزوير. وبذلك فشلت هذه المحاولة كما فشلت محاولة أخرى سابقة عن تزوير رسالة من سفارة كوبا في "ليما" بشان تآمر هافانا لإثارة ثورة في البيرو غير أن هذا الفشل لم يثن موريسون عن عزمه. وفي 20 كانون الثاني / يناير 1962، عقد وزراء خارجية دول المنظمة الأمريكية مؤتمرا للبحث في إقصاء كوبا عن المنظمة. وجاءت الملايين الخمسة التي قدمها موريسون لهايتي حافزا لهذه الدولة للتصويت إلى جانب قرار الاقتصاد.
- نشاطات عدوانية متضافرة..
شهدت هذه المرحلة عدة عمليات ومحاولات من جهات مختلفة هدفها اسقاط كاسترو اشبه ما تكون بمسلسل من ألف ليلة وليلة!
يصح اعتبار عام 1926 عام اتساع النشاطات التخريبية ضد كوبا، لا سيما والرئيس جون كينيدي أقر في حزيران /يونيو من هذا العام تصعيد الحرب السرية، إعدادا لحملة في العام التالي، في حين أن اللجنة المكلفة بتنفيذ المشروع أقرت في اجتماع لاحق تنفيذ 12 عملية تخريبية على مصفاة النفط ومؤسسات أخرى بالإضافة إلى عمليات أخرى كانت قيد التنفيذ والواقع أن الوكالة كانت منذ بداية العام تنفق نحو ربع مليون دولار شهريا على ابنها المدلل "مانيويل أرتيم" (من أعنف معارضي كاسترو الكوبيين) لإحياء الثورة والقيام بعمليات تخريبية. وكان الجنرال لانسدايل يقوم بالتفتيش شخصيا على الاستعدادات وبتجنيد رجال حملة خليج الخنازير للخدمة، ويتصل برولاندو كوبيلا مندوب حكومة كوبا لاتحاد الطلاب العالمي، وعميل الوكالة، بسبب انقلابه على الحكومة لعدم احتلاله فيها منصبا يتناسب وجهوده في قيادة هيئة الطلاب الثوريين بعد انهيار باتيستا، للاسهام بتنفيذ بعض العمليات التخريبية، إذا أمدته الوكالة بما يلزم. وفي هذه الفترة وافق ساموزا على السماح لأرتيم باستخدام قاعدة في نيوكاراغوا للهجوم على كوبا واتصل برئيس كوستاريكا لتأمين قاعدة ثانية تجنيبا للولايات المتحدة من التورط المباشر في عملية جديدة للإطاحة بكاسترو.
وأدى سخاء الوكالة إلى إنشاء معسكرين في أدغال كوستاريكا، وتجهيز القاعدة البحرية في "مانكي يونيت" في نيكاراغوا، وشراء أحدث المعدات الألمانية للرجال الضفادع، وتأمين المعدات والأدوات اللازمة من الولايات المتحدة بعد إزالة الإشارات الدالة عليها. أما الأسلحة فكانت غالبيتها مستوردة من ألمانيا الغربية ملفوفة بصحف ألمانية، بحيث يصعب على كاسترو اتهام الولايات المتحدة بحال فشل العملية. وفي 15 تشرين الثاني / نوفمبر 1962 أبحرت القوات التخريبية بحال فشل "بيت سان رومان" المستشار العسكري غير الرسمي لروبيرت كينيدي للقيام "بضربات قوية ضد كاسترو"، على حد قول رئيس نيكاراغوا.
أندية المقاومة تتحرك:
وفي ربيع هذه السنة أيضا بدأ الإعداد في ميامي لعملية أصحاب أندية المقامرة بإشراف المحامي يولينا سييرا مازتينيز الذي ادعى مناصرة أثرياء أمريكيين له، ودعا المنفيين إلى التجمع حوله لتشكيل حكومة مؤقتة برئاسة كارلوس بريو، ودعت صحيفة "تشيكاغو تريبيون" إلى هذه الحركة التي تحظى بدعم أصحاب الاستثمارات لا سيما مربي الماشية، ومالكي أندية المقامرة، ممن كانوا على استعداد لانفاق نحو 30 مليون دولار في محاولة استعادة كوبا. والواقع أنها محاولة بالتعاون بين رجال المافيا والوكالة، ضمنت دعم العديد من المجموعات السرية المعارضة لكاسترو في حكومة كوبا في المنفى لاستلام الحكم أثناء الفراغ الذي يحدث بحال النجاح باغتيال كاسترو. وقد قيل آنذاك أن مجموعة من "المقامرين في الغرب" كانت على استعداد لتمويل هذه الحكومة بالإضافة إلى أصحاب نادي سان سوسي للقمار في هافانا والدائرتين في فلكهم. وقد جرت هذه المحاولة بعد تأمين قاعدة انطلاق من نيكاراغوا وتوفر الأسلحة غير أن الوكالة اعتبرت هذه العملية مجرد محاولة لإبقاء لهبة المعارضة مشتعلة.
عملية السفينة ركس
في ليل 21 تشرين الأول / أكتوبر، 1963، كانت للسفينة ركس مهمة خاصة ينبغي في سبيلها أن تدخل منطقة الدفاع الكوبي الساحلي، ضمن مسافة نصف ميل من الشاطئ. وفي هذه الأثناء كان ربانها يرقب سيارة كاديلاك على الرصيف يخرج منها قائد عمليات الوكالة في البحر الكاريبي، حاملا حقيبة جلدية ناعمة.
وما السفينة "ركس" هذه غير واحدة من عدة سفن تابعة لوكالة المخابرات المركزية، مسجلة باسم هيئة للأبحاث الالكترونية والمحيطية للتمويه، وعليها رجال موثقون من عملاء الوكالة ممن كانوا يعملون قي قوات باتيستا البحرية للقيام بعمليات تخريبية في كوبا. وما كاد رجال هذه السفينة يقتربون من السواحل الكوبية حتى كشفتهم قوات الدفاع الكوبية، وكادت الطائرات الأمريكية والسوفياتية على وشك الاصطدام، لاسيما بعد أن كانت موسكو قد أعلنت عملها بقيام وكالة المخابرات المركزية بخرق الاتفاقية التي أعقبت أزمة الصواريخ – واستطاع بعض رجال هذه السفينة الفرار بعد معركة تضليلية تورطت فيها قوات كاسترو الدفاعية مع سفينة خاصة مكنت الولايات المتحدة من رفض اتهام كاسترو لها والاصرار على مواصلة الحصار الاقتصادي على كوبا. والواقع أن هذه المحاولة كانت تنفيذا التعليمات من قبل الرئيس في حزيران / يونيو 1962 للقيام بأعمال تخريبية في كوبا في ميادين إنتاج النفط والمواصلات والطاقة الكهربائية.
تزويد النقد::
العملية النازية التي لجأ إليها الألمان في الحرب العالمية الثانية من حيث إصدار أطنان الجنيهات البريطانية المزورة لضرب الاقتصاد البريطاني، لجأ إليها أيضا ماريو غارسيا كوهلي لنسف الاقتصاد الكوبي. وفي تشرين الأول / أكتوبر، عام 1960 كان نائب الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون، ونائب مدير وكالة المخابرات المركزية، وماريو غارسيو كوهلي يتناولون الشؤون السياسية في لقاء حول لعبة الغولف بتدبير من عضو سابق في مجلس الشيوخ مكلف من كوهلي نفسه، إذ أن هذا الكوبي المتطرف كان يتوقع نجاح ريتشارد نيكوس في انتخابات الرئاسة الأمريكية ويأمل أن يكون بدوره الرئيس التالي لكوبا. والواقع أنه شكل حكومة الأمر الواقع وراح يعرض أسماء أعضائها على نيسكون وهو يصغي إلى عمليته الجديدة التي أسماها بعملية "البحيرة". والظاهر أن نيكسون تأثر بخططه فدعا الوكالة إلى التعاون معه.
وكانت الوكالة ترى في هذا الرجل إنسانا مغرورا لا التزام له إلا نحو نفسه وقد نافس فولجنسيو باتيستا على مقعد في الكونغرس، ودخل السجن في عهده وعارض كاسترو بالطلع. غير أن تدخل نيكسون لصالحه فرض على الوكالة عقد اجتماعات معه أسفرت عن عدم اقتناع الوكالة بحجة صعوبة السيطرة عليه، ومعارضة مخططه من المشروع الموضوع من قبلها لغزو كوبا. أما هو فراح يشكو من أن الوكالة "سرقت آراءه" ثم زعم كذلك بأن الوكالة حاولت رشوته بنصف مليون دولار.
بعد ذلك قام بالاتصال بإدارة كينيدي عبر كاردينال بوسطن، وهو يعتقد أن مشروع تزوير النقد الكوبي يشكل الضربة القاضية. على أن قلق إدارة كينيدي من مزاعم هذا الرجل لم تحل دون تأييد كوهلي من قبل أحد كبار المسؤولين في الوكالة، لا سيما بعد أن سكن بجوار ألان دالس في واشنطن.
أما مشروع تزوير النقد الكوبي فهو من بنات أفكار شاب عامل بالوكالة مكلف بمساعدة منظمة كوهلي. وقد ظن أن طبع مقادير هائلة من النقد الكوبي لن ينسف الاقتصاد الكوبي وحسب بل سيغطي نفقات تأمين السلاح والذخيرة للمقاومة السرية في كوبا أيضا. وكان أيد كندريكس صلة الوصل بين الوكالة وكوهلي، قد ضمن عدم الملاحقة القانونية، لمثل هذا العمل غير القانوني.
غير أن الشباك كانت تلقى حول القائمين بالعملية وقد قيل في ذلك أم عميلا لكاسترو نسفها، في حين قال آخرون أن إدارة كينيدي نجحت في القضاء عليها. بينما زعمت "الواشنطون أويزرفر" اليمينية الداعمة لكوهلي أن للدومينيك علاقة بافشال العملية. على أن المعروف أن نائب مدير الوكالة أبلغ المزورين أن الرئيس كينيدي دعا النائب العام إلى ملاحقة الأمريكيين والكوبيين الذين يقومون بإنتاج العملة الكوبية المزورة وإمكان تسريب نبأ التزوير إلى السلطات الكوبية بالذات، في حين كان كاسترو في القوت ذاته يأمر بسك نقد جديد لمكافحة التضخم. وفشلت محاولة الاسراع بطبع العملة المزورة قبل أن يدري الرئيس الأمريكي بما يجري، وفي 16 آب 1962 اختفى اثنان من المشتركين بعملية التزوير، وفي الثاني من تشرين الأول ألقي القبض على آخرين وجرت محاكمتهم. وفي 9 آذار 1965 تدخل ريتشارد لصالح كوهلي، لكنه حكم بالسجن، ولم يخرج منه إلا بعد أن أصدر ليندون العفو عنه شرط أن لا يقوم بنشاط معاد لكاسترو.
الحرب البيولوجية
حقا إن الحرب على كوبا لم تتوقف كليا بعد مقتل جون كينيدي، ولو أنها خفت بعض الشيء في عهد ليندون جونسون. ثم جاء ريتشارد نيكسون فبعثها بقوة مضيفا إليها أساليب الحرب البيولوجية بنقل الحمى الافريقية لضرب الماشية في كوبا، وبالعمل على إسقاط الأمطار فوق جزيرة كوبا لاتلاف مزروعاتها، ثم راح يقف أمام عدسات المصورين الصحفيين لتهنئة محاربي كاسترو.
وفي الخامس عشر من كانون الأول عام 1971 استطاعت البحرية الكوبية أن تقتاد سفينة "جوني أكسيرس" إلى مرفا كوبي، وأن تعتقل بعض رجالها. واعتبر البيت الأبيض هذا العمل "خرقا للأعراف الدولية" ولاذ بالصمت بعد ذلك، كما سبق له أن فعل عند اقتياد سفينة أخرى مماثلة، قبل اثنى عشر يوما باعتبار القضية تتعلق بباناما إذ أن السفينة كانت ترفع علمها. ولكن إذاعة هافانا أعلنت أن السفينة ملك لعملاء وكالة المخابرات المركزية، قامت بإنزال "العملاء والأسلحة والمتفجرات" في كوبا في ثلاث مناسبات في عامي 1968-1969 وحملت قبل شهرين زورقا بخاريا سريعا لقصف بلدة ساحلية، والواقع أن السفينة كانت بقيادة اثنين غادرا كوبا عند انتصار كاسترو، وعمل في خدمة الوكالة. وفيما كان البيت الأبيض يلوذ بالصمت حيال القضية كان ريتشارد نيكسون يبدي اهتماما بالقضية وراحت وزارتا الدفاع والخارجية تحذران كوبا من مغبة تكرار مثل هذا العمل.
وفي إطار الحملة على كوبا قامت الوكالة في عامي 1969-1970 باللجوء إلى استخدام الطائرات لنشر غيوم ماطرة فوق كوبا لإحداث فياضانات جارفة اتلفت زراعة قصب السكر وفي آذار عام 1970 قام أحد ضباط الاستخبارات بتسليم قارورة من فيروس الحمى الحيوانية لمجموعة ارهابية نقلتها عبر قاعدة سابقة للوكالة إلى كوبا. وبعد ستة أسابيع انتشرت هذه الحمى بين قطعان الخنازير في كوبا، مما أحدث نقص خطيرا في اللحوم، في حين راحت منظمة التغذية والزراعة التابعة لهيئة الأمم تعمل على معرفة كيفية تسرب الداء الوبيل.
فضيحة ووترغيت
وببداية إدارة ريتشارد نيكسون تبين لرجال المافيا أن الحكومة لم تهملهم وسرعان ما توقفت ملاحقة رجال المافيا نظرا للخدمات التي قاموا بها للسلامة القومية، كما عمدت الإدارة إلى عزل المدعي العام روبرت مورغتتو الذي أصر على مطاردة رجال المافيا ومكافحة أساليبهم الملتوية في الشؤون المالية.
ولتحريض الولايات المتحدة على غزو كوبا اتفق بعض رجال المافيا والوكالة على حمل احدى السفن على إطلاق النار على "كي بيسكاين" منتجع ريتشارد نيكسون، حين يكون فيه، بحيث يكون هذا العمل مبررا لإعلان الحرب على كوبا.
ولكن فضيحة وترغيت التي اضطرت الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة وضعت نهاية فصل مأسوي ومروع من حرب أمريكا السرية ضد كاسترو.