Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

كتاب الحروب السرية ضد الجزائر المحروسة /حوض المتوسط الغربي بحرية فرنسية / المؤلف صالح مختاري

حوض المتوسط الغربي: "بحيرة فرنسية"

لا حاجة إلى الإسهاب في تسجيل الدور الذي يلعبه البحر الأبيض المتوسط في تخطيط استراتيجة البلدان المطلة علي مياهه. فأهمية المتوسط هي التي تفسر بعض الأبعاد الدولية للصراع الذي عرفته المنطقة خلال الحرب الأهلية في إسبانيا، وأهمية المتوسط هي التي تفسر إلى حد ما العلاقات التي أقامتها إيطاليا، في الفترة نفسها تقريبا، مع نمسا والمجر وألمانيا. فموسوليني قال في خطاب له في مدينة ميلانو يوم أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1936:"ان إيطاليا جزيرة نبتت في البحر المتوسط.. وإذا كان هذا المتوسط معبرا الآخرين فإنه بالنسبة لنا نحن الإيطاليين، يعني الحياة".

ونجد الفكرة نفسها في صور بيانية مختلفة، عند الاستعماريين الفرنسيين، فالبحر المتوسط، وخاصة حوضه الغربي، أصبح يعتبر بحيرة فرنسية في نظرهم، بل إنه أصبح في أدبيات المتمسكين –بـ"الجزائر الفرنسية" عبارة عن مجري داخلي "يقطع فرنسا كما يقطع نهر السين مدينة باريس" حسب تعبير أحد الجنرالات الفرنسيين. وكما قاد الاهتمام بالمتوسط واعتباره مصدر حياة، نظام إيطاليا الفاشي إلى احتلال ليبيا وإعتبار أراضيها امتدادا للأرض الإيطالية، وسلوك سياسة استعمار استيطاني فيها، قاد الاهتمام بالمتوسط فرنسا في الخمسينات الى الحرص على الاحتفاظ بالجزائر فرنسية، وهي التي كانت عرفت الاستعمار الاستيطاني منذ القرن التاسع عشر، وكذلك إلى الاحتفاظ بتونس والمغرب خاضعتين له، رغم شبهة الحكم المحلي. لكن الوضع بعد قيام الثورة الجزائرية لم يكن يسمح بأن يكون حوض المتوسط الغربي بحيرة فرنسية: فقد أصبح هناك الحلف الاطلسي الذي يضم عددا من البلدان الأوروبية والولاياتن المتحدة الاميركية. وهذا ما جعل المنظرين الفرنسيين يفكرون في إنشاء حلف متوسطي يكون أداة لخنق الثورة الجزائرية. وقد استخرج الفرنسيون فكرة الحلف هذه من الأرشيف الأسباني: فقد سبق أن دعا لها، عام 1952، وزير الخارجية الأسباني ارتاخو الذي كان قد قام بجولة عبر بلاد المشرق العربي مبشرا بهذا الفكرة.

ويتأكد الهدف الأساسي من انشاء هذا الحلف، عند مراجعة التصريحات الفرنسية المختلفة بهذا الصدد التي نكتفي منها بالتصريح التالي الذي أدلى به فليكس غايار (الذي استمرت حكومته من 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1957 إلى  15 نيسان (ابريل) 1958 عندما قال أمام المجلس الوطني الفرنسي:

"ان الحل الوحيد للمشكل الذي  يواجهنا هو تحقيق مجموعة فرنسا: - المغرب. لقد آن الأوان لأن ننظم مع بلدان البحر المتوسط محورا للدفاع المشترك يمتد من الشمال إلى الجنوب، وهذا المحور يعد تتمة طبيعية للحلف الأطلسي. وفي هذه المجموعة تستعيد الجزائر الفرنسية مكانتها بعد أن تكون قد تمتعت بحريتها الإدارية". (الحرية الإدارة تعني مفهوما شبيها بمفهوم الحكم المحلي بفلسطين حسب النظرة الصهيونية).

أما البلدان التي يشكل منها هذا الحلف فهي ثلاثة أصناف:

- بلدان مطلة على المتوسط، وهي ايطاليا، واسبانيا، وفرنسا، والمغرب، والجزائر (الفرنسية)، وليبيا.

- بلد أوروبي لا يطل على المتوسط، لكن له "ممتلكات" في حوضه، وهو بريطانيا التي تسيطر على قبرص ومالطا وجبل طارق.

- بلد غير أوروبي هو الولايات المتحدة الامريكية التي تملك أهم قوة عسكرية في المنطقة ممثلة بالاسطول السادس، والتي لها قواعد عسكرية في اسبانيا والمغرب وليبيا.

ومزية هذا الحلف في نظر الداعين له من الفرنسيين إنه يعطي فرنسا مكانة إمتيازية تتماشى مع فكرة:"المتوسط بحيرة فرنسية" إذ يضمن وجودها على ضفتيه: فرنسا الأوروبية على الضفة الشمالية، فرنسا "الجزائرية" على الضفة الجنوبية.

وبإقامة هذا الحلف على أساس المحور الأول، وهو البحر المتوسط. تكون فرنسا قد وضعت نهائيا تحت هيمنتها مجموع الشمال الإفريقي، لأن استقلال تونس والمغرب لم يكن من الممكن استمراره مع بقاء الجزائر فرنسية.

الصحراء:"بحر من الرمال فرنسي الجنسية"

تشكل الصحراء محورا هاما من محاور الستراتيجية الفرنسية، وقد لعبت دورا هاما في تمديد حرب الجزائر وتغذية وقوذها، فقد ركز الاعلام الفرنسي على الصحراء وخاصة منذ العام الثالث لحرب الجزائر: ركز عليها في مرحلة أولى للرد على الذين كانوا يستعملون الحجة الاقتصادية للمطالبة بإنهاء الحرب، وخلاصة هذا الرد إنه إذا كانت الحرب تستنزف قسما هاما من الخزينة الفرنسية، فإنها تضمن في الوقت نفسه عن طريق تأمين الثروات الصحراوية (وخاصة البترول) ليس فقط تمويل هذه الحرب، بل وتحقيق إزدهار فرنسا وإستقلالها الاقتصادي.

ثم استعملت الصحراء في مرحلة ثانية بوصفها أداة تضمن استمرار الهيمنة الفرنسية على إفريقيا. ذلك أن استمرار الحرب وعدم ظهور بوادر انتصار عسكري أو سياسي في أفق، أدى الى بروز فكرة تقول: لا مانع من إعطاء الاستقلال للشمال الجزائري مفصولا عن إمتداداته الصحروية، إذ تظل الصحراء فرنسية. وقد استعمل الجنرال ديغول نفسه بعد ذلك هذه الفكرة في بيانه الشهير بتاريخ أيلول 16 (سبتمبر) 1959.

والواقع إنه قد تم التمهيد لهذه الفكرة على عدة مراحل، وقد تبلورت عبر ما عرف باسم "المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية" (O.C.R.S)، وقد أصبحت هذه تابعة لوزير خاص منذ عام 1957، وبذلك أصبح شمال الجزائر تابعا لوزير مقيم في مدينة الجزائر، بينما تتبع الصحراء وزيرا يقيم في باريس. وقد صدر مرسوم بتاريخ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1957 يحدد هذا الوضع.

وبذلك أوجد الاستعمار الفرنسي نمطا جديدا من أنماط الاستعمار: فبعد ان فشلت تجربته الاستيطانية في شمال الجزائر، أراد أن يستعمر الصحراء بواسطة توطين العتاد وغرس أجهزة التنقيب والاستخراج معتمدا على عدد محدود من الفنيين دون حاجة إلى إسكان أوروبي مكثف، طالما إنه يفترض في الصحراء أن تكون خالية من السكان.

وقد إستغل الاستعمار الفرنسي هذا النمط الجديد في ثلاثة إتجاهات: إتجاه الرأي العام الفرنسي الذي يصبح والحالة هذه مؤيدا لاستمرار الحرب، معلقا آمالا كبيرة على الصحراء أن تحل مشاكله الاقتصادية بفضل ما تزخر به من ثروات. أما الاتجاه الثاني لاستعمال الصحراء فهو رأي العام العالمي الذي خاطبه بالمنطق التالي: نظرا إلى الصحراء عبارة عن منطقة غير آهلية بالسكان، فلا ينطبق عليها مبدأ تقرير المصير.

ثم إتجه الاستعمار إلى الرأي العام الإفريقي يستهويه هو الآخر بالصحراء، على أساس إنها تشكل "بحرا داخليا من الرمال" فيحق لكل جيرانه أن يسهموا في استغلال خيراته.

والحقيقة أن الإستعمار الفرنسي كان يريد أن يستغل الصحراء في اتجاه آخر هو جعل الصحراء، زيادة عن نهب ثرواتها، مركزا لتطوير الصناعات الحربية الحديثة.

ولهذا الغرض انشئت "مناطق التنظيم الصناعي الافريقي" أقيمت واحدة منها في تندوف والثانية في جهة الكويف، وهذا زيادة عن مركز للتجارب الصاروخية أنشيء  قبل ذلك في كولمب بشار (وهناك إثنتان أخريان بافريقيا واحدة في غينيا والأخرى في مدغشقر).

ويؤكد الطابع العسكري والغرض الحربي لهذا التنظيم كونه تابعا لهيئة تحمل ايم "المكتب الافريقي للدراسات والأشغال الصناعية العسكرية" الذي ينص قانون إنشائه على تدخل الجيش في بناء ومراقبة المعامل التي تقام في هذه المناطق.

إذن فتوظيف الصحراء صناعيا أبعد ما يكون عن سد حاجات سكانها وسكان البلدان المجاورة لها أو ضمان تنميتها إجتماعيا وثقافيا، وقد كشفت المجلة العسكرية الفرنسية في آذار (مارس) 1959 عن حقيقة هذا التوظيف إذ قالت:

"إن فرنسا تجد نفسها في وضعية ممتازة من هذه الناحية، ناحية الحاجة إالى الميادين الشاسعة في الحرب الحديثة، نظرا لاتساع الصحراء وقربها النسبي من الوطن الأم، وهذه الوضعية الممتازة من شأنها أن تؤثر تأثيرا كبيرا في تطوير دفاعنا الوطني نظرا لأهمية مشكل الصواريخ وإلى إرتباطه بمبدأ التجارب".

في الجزائر.. هنا فرنسا

بعد هذا نصل إلى الدعامة الثالثة من دعائم الستراتيجية الفرنسية، إن الجزائر في نظر جميع الفرنسيين تقريبا، أصبحت فرنسية، منذ زمان... والي الابد، وباستثناء أفراد قلائل، لا تجد فرنسيا يفكر في امكانية "انفصال الجزائر" عن فرنسا إلا أن يكون انفصالا تحت سيطرة أوروبي الجزائر الذين تضايقهم بعض المظاهر الديموقراطية والذين يريدون التخلص منها، لأن الجزائري كائن غير مؤهل لأن تطبق عليه حقوق الإنسان.

وقد بلغ حد الإقتناع بهذه المسلمة "الجزائر فرنسية" إن أحداث أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 لم تكد تهز أحدا في فرنسا، فالصحافة الباريسية، غداة الأحداث المتعددة التي أعلنت ميلاد الثورة لم تتعرض لها إلا في حدود ضيقة، كانت أبرز عناوينها تتحدث عن النجاح الذي أحرزته مبيعات الجزء الأول من مذكرات الجنرال ديغول. وحتى صحيفة "لومند" لم تخصص للموضوع إلا حيزا أقل من ذلك خصصته للحديث عن الانتخابات الأميركية.

إن ردود الفعل داخل فرنسا تدل على أن أحداث تشرين الثاني (نوفمبر) لم تؤول على إنها بداية ثورة تهدف إلى تحقيق الاستقلال. وهذا ما يفسر ردود فعل رئيس الحكومة الفرنسية، بيار منديس فرانس، رغم إنه كان، قد أقام الدليل، قبل ذلك بقليل، سواء في معالجته لمشكلة حرب الهند – الصينية، أو للقضية التونسية، عن جرأة نادرة لم يسبقه إليها أحد من رجالات الجمهورية الرابعة. فقد ألقى خطابا شديد اللهجة، بالمجلس الوطني الفرنسي، يوم 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 لا يتميز في جوهره عن خطاب أكثر الاستعماريين تطرفا، وإن اختلفت عنهم في أسلوب العلاج، كما سوف نرى.

يقول منديس فرانس في خطابه ذلك:

"إنه لا مكانه للمهادنة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن السلم الداخلى للأمة، عن وحدة وسلامة الجمهورية، إن محافظات الجزائر جزء من الجمهورية. انها فرنسية منذ زمن طويل وبصورة لا رجعة فيها... ان ممثلي المحافظات الفرنسية قد اعطوا كلهم مهما كان أصلهم أو دينهم، من البراهين عن تعلقهم بفرنسا في ظل السلم كما فعلوا من قبل ذلك في زمن الحرب، ما يجعل فرنسا ترفض إعادة النظر في هذه الوحدة... إنه لا يمكن تصور الانفصال بين الجزائر وفرنسا. ليكن ذلك واضحا مرة واحدة وإلى أبد الآبدين في الجزائر وفي الوطن الأم وفي الخارج... لقد حاول بعض النواب التشبيه بين سياسة فرنسا في الجزائر وسياستها في تونس، إني أؤكد إنه لا يوجد ما هو أكثر زيفا من هذا التشبيه، ولا أشد خطرا، هنا فرنسا...".

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الخطاب قد قوبل بالتصفيق الحار من اليسار إلى الأقصى اليمين عبر الوسط واليمين.

وهذا يعني أن هناك إجماعا فرنسيا على عدم مواجهة مطالب الجزائر بشيء آخر... غير الحرب. وكما قال أحد المسؤولين آنذاك: "التفاوض الوحيد... هو الحرب".

لكن ذلك كله يمنع الثورة الجزائرية أن تغير خلال السنوات الثلاث الأولى، خريطة المنطقة وأن تدخل تحولات عميقة على الأوضاع الجهوية وعلى نظرة العالم إلى الجزائر وفرنسا نفسها.

لم تكد تحل السنة الثالثة من الحرب الجزائرية، حتى كانت خريطة المغرب العربي قد تغيرت، فالمغرب – الذي كان سلطانه في المنفى عندما قامت حرب الجزائر – قد استقل مثلما استقلت تونس التي كان الكثيرون يتصورون إنها سوف تقف عند حدود الإستقلال الداخلي، وسوف تستمر تابعة للحكم الفرنسي بصورة أو الأخرى.

والواقع أن التحولات التي أدخلتها ثورة نوفمبر لم تقف عند حدود المنطقة، وغني عن القول بأن هذه التحولات تمت بصورة يصعب معها تصنيفها في الزمان وترتيبها في المكان: فقد كانت متداخلة متشابكة، تتزامن أحيانا في أمكنة مختلفة، وتختلف مواعيدها في المكان الواحد حينا آخر.

ذلك أن الثورة الجزائرية، بفعل الطابع الخاص الذي اكتسته، والذي يرجع إلى ظروف تاريخية خاصة، حطم الحواجز بين عدد من المتناقضات التي كانت معزولة بعضها عن بعض، فأصبحت هذه تتصارع صراعا نضطر معه، إذا أردنا أن نتبين خطوطه بوضوح، إلى إيجاد تصنيف لا يخلو من اصطناع.

أول إطار يمكن أن نلحظ فيه صراع المتناقضات، هو الاطار الفرنسي الداخلي، فقد أحدثت الثورة المسلحة في الجزائر شرخا في الجبهة الاستعمارية، رغم اتفاق كل التيارات الفرنسية على أن الجزائر يجب أن تظل فرنسية.

لقد كان رئيس الحكومة الفرنسية، آنذاك هو بيير منديس فرانس الذي حاز على الثقة في أعقاب هزيمة ديان بيان فوالتي مني بها الجيش الفرنسي في أيار (مايو) 1954. وقد كانت أهم نقطة في برنامجه هي الرهان على وضع حد لحرب الهند الصينية.

ولم يكد يفرغ من مفاوضات جنيف المتصلة بتحقيق ذلك الهدف، حتى طار إلى تونس لمقابلة الباي في قرطاج حيث القى بيانه الذي أعلن فيه الاعتراف بـ "الاستقلال الداخلي للدولة التونسية".

ورغم أن هذه الخطوة تبدو الآن جد محتشمة فقد ظهرت آنذاك جد جريئة إلى درجة أن منديس فرانس شعر بالحاجة إلى أن يصطحب معه الماريشال جوان (الذي هو من فرنسيي الجزائر) حتى لا يتهم بالتفريط في الحق الفرنسي.

وقد كان هذا الموقف يهدف في نظر منديس فرانس إلى الشعور في تجربة جديدة بشمال إفريقيا تسمح بإدخال بعض التغيرات على الخط الاستعماري القديم. وقد دفعه إلى البدء بتونس معرفته بالملف التونسي، من جهة، وإعجابه الكبير بزعيم الحزب الدستوري من جهة ثانية، وكون تونس "هي البلد الذي يمكن أن ننجح فيه بأقل صعوبة، نظرا لحجمه وجمهوره"، حسب تعبير منديس فرانس نفسه في مجال تعليق له أبداه مرور خمس وعشرين سنة على مبادرته تلك.

وقد كان هذا المسعى الجديد في تعاطي باريس مع مستعمراتها ابذانا بقيام الحرب بين أنصار الاستعمار القديم ومنظري الاستعمار الحديث، وزاد في الأمر تعقيدا قيام الثورة الجزائرية قبل أن يفضي المسعى الجديد إلى نهايته المقدرة.

ذلك أن أنصار الاستعمار القديم، وخاصة أوروبي الجزائر، لم يروا في أحداث نوفمبر حتمية لممارسات عمياء، بل اعتباروها نتيجة من نتائج السياسة التي سلكها منديس فرانس في تونس، فقد صرح فرانسوا كيليسي نائب وهران معلنا في المجلس الجزائري وجهة نظر أوروبي الجزائر قائلا:

"عندما يعلن السيد منديس سيادة تونس الداخلية ويسلم الحكومة وتونس نفسها إلى الحزب الدستوري الجديد، فانه يكون قد أقام الدليل على أن الأرهاب يأتي بالنتيجة... وهكذا ينتشر المرض، ان السلم الجزائري الرائع قد تهدم لأن الضعف يشجع دائما على الاندفاع في المغامرات جديدة".

ومعنى هذا أن ممثلي أوروبي الجزائر وانصارهم في باريس يحملون رئيس الحكومة الفرنسية مسؤولية اندلاع حرب الجزائر، جاهلين أو متجاهلين تاريخا كاملا من الكفاح والنضال تواصل بشتى الأساليب دون انقطاع منذ 1830.

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية ضد الجزائر المحروسة /فشل الاحزاب في مواجهة الاستعمار 2 /المؤلف صالح مختاري

الصورة الشعبية العارمة

وهنا ندرك كيف إستعاد الشعب هذه الحرية بالإرادة التي لاتلين، وبالغصب والقوة، وكيف إتحدث كلمته بمعزل عن الأحزاب التقليدية، وفي حركة جماهيرية عارمة ومنظمة أحسن تنظيم، فأصبحت الثورة بذلك حقيقة لاينازع فيها أحد ... ثورة إستطاعت أن تنطق من الصفر، وأن تجعل ما كان مجرد أحلام وتصورات، يتحقق ويحدث المعجزات... وهنا أيضا ندرك لماذا وجد الإستعمار نفسه، رغم كل مالديه منسيطرة وقوةوعتاد، عاجزا ومحكوما عليه نهائيا بالفشل. ولذلك لم ير الإستعمار من وسيلة لإستعادة سيطرته إلا بتسعير حرب ضروس. ولكن العجيب في الأمر أن هذه الحرب الغاشمة التي بلغت منتهى العنف والقسوة لم تفتّ من عضد الحركة القومية، بل دفعتها للعمل من أجل بناء الوطن. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فقد جعلت المدبرين لها يتمادون في غيهم وحماقاتهم. وكنتيجة لهذه الوثبة إلى الأمام ـ وما رافقها من أحداث جديدة، وتنظيم ثوري جديد ـ فقد زادت الشقة إتساعا بين الشعبي الثائر، وبين الشرذمة الباقية من المنتخبين الحكوميين، والأعيان، وأتباع مصالي العاملين في حزب الحركة القومية الجزائرية، تلك الشرذمة التي يحالو الإستعمار بشتى الوسائل أن يدفع بها إلى الميدان، لكي يقف بها في وجه الحركة الزاحفة نحو الحرية والتقدم... تلك هي أسطورة القوة الثالثة: مجرد أرقام لها وزن، يتخذها الإستعمار ركيزة ليقف بها في وجه الثورة الشعبية العارمة. وهكذا لم تستطع هذه الحرب الضارية أن تنال من حركة التحرير الزاحفة، أو تضيّق عليها مجال الإنتشار في الزمان والمكان، أو تحول دون إنضمام الجماهير الغفيرة اليها.

وكما فشلت الحرب، فإن الأساليب السياسية المفضوحة ستكون أكثر فشلا، لأنها معاكسة للتيار. فالمحاولات الرجعية التي نشهدها اليوم، تدل على الإستعمار، بخصائصه الثابتة، لم تتغير عقليته وأساليبه في التصدي للحالات الطارئة. وعلى سبيل المثال، فإن الإستعمار يستعمل مع الشعب أسلوب العطف ا لأبوي، المصحوب بالشدة والعنف. وهذا يدل على تصوره الصبياني للعالم المعاصر، وجهله تماما بما تشهده الجزائر المكافحة منذ سبع سنوات من تغير  في العقليات ، وتطور في الوقائع والأحداث. وأكبر دليل على ذلك ماتبثه  محطة الإذاعة والتلفزة الفرنسية باللغتين العربية والقبائلية من برامج مخصصة للمستعمين الجزائريين، وما في تلك البرامج من النصائح المبتذلة والنواهي السخيفة التي يبدو كأنها قد بقيت من عهد حكومة فيشي، أيام كانت تلك الحكومة توجهها للشبيبة الفرنسية لكي تنصحها بالتعاون مع الحكم النازي... وأسلوب العطف الأبوي هذا نجده أيضا ـ ولكن على الصعيد الإيويولوجي ـ لدى فئة من اليساريين الفرنسيين الذين يستبعدون أن يكون الجزائري قادرا على بناءا مجتمع إشتراكي ديمقراطي، وهم يصدرون في حكمهم هذا عن جهل تام بالجزائريين... وماذا نجد مقابل هذا كله؟ نجد بلدا أخذ يتشكل، ويتخذ مختلف الأبعاد، وينظم شؤونه في ظروف الحرب القاسية، ويبعث في النفوس طاقات جديدة، ويتعطش للتقدم السياسي والإجتماعي، ويكتسب في وقت قصير تجربة أصيلة متعددة الجوانب... تجربة دولة فتية متفتحة على العديد من البلدان في إفريقيا الجوانب... تجربة دولة فتية متفتحة على العديد من البلدان في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا، نظرا لما نشأ بينها من علاقات ومبادلات، وآمال مشتركة، وما قام بينها من صداقة وتعاون وتقدير للكفاح المرير.

 

 

 

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية على الجزائر المحروسة /فشل الاحزاب في مواجهة الاستعمار المؤلف صالح مختاري

فشل الأحزاب في مواجهة الإستعمار

العامل الأساسي الذي حدّد موقف الشعب والقاعدة المناضلة من  الأحزاب السياسية نتيجة مواقف الإستياء، والشعور بالإحباط، والبحث عن بديل هو الواقع الإستعماري البغيض، الذي واجهته الأحزاب بطريقة فاشلة، في معركة خاسرة سلفا، لأن السواد الأعظم من الشعب كان محروما من المشاركة فيها. فالعمل إذ بقى محصورا في مجال ضيق، ولم يتسع نطاقه ليشمل الجماهير الغفيرة، قد يجعل النضال السياسي عقيما، حتى ولو كان مخلصا، وجعل المبادرات السياسية تدور في حلقة مفرغة، وتهدف بالدرجة الأولى إلى صيانة المظاهر. وهذا لا يعني بأن الذّنب هو دائما ذنب هذه التشكيلة السياسية أو تلك. فإدانة الأحزاب بدون تحفّظ قد تخلو من التعسف والإجحاف. ولكن، حيث  بإستعادة الجماهير لحريتها في العمل، ومشاركتها في الإنطلاقة الثورية، قد أحدث تغييرا جذريا في أصحاب العقلية القديمة، وكشف عن زيف بعض المباديء والأفكار السائدة قبيل ثورة الفاتح من نوفمبر. وأثر تأثيرا بعيدا من حيث خلق ظروف جديدة، وإنما من التفكير الجديد، ومن المواقف الإيجابية التي ما لبثت أن قضت نهائيا على نظام الأحزاب ونعراتها الجهوية وأساليبها الرذيلة.

إن المشكلة الأساسية التي عجزت السلطة الحاكمة عن حلها، مما أدى، لأسباب مختلفة، إلى إندلاع الثورة، هي مشكلة تحقيق التقدم الشامل في مختلف الميادين، عن طريق فتح الأبواب المغلقة. ترجمتها غضاضة في سياسة التعامل مع السلطة الحاكمة، لأنها  تعمل من أجل إقامة السلام. ولكنها عجزت عن حلها، لأسباب كثيرة ومعروفة، فقامت الثورة، والتقدم ليس من الكلمات الجوفاء، وأن كان قد يبدو لأول وهلة بأنه لا يؤدي تماما المعاني الكثيرة الخاصة به، كالحرية المبدعة، والإنتفاضة الجماعية، والوثبة الشاملة إلى الأمام، والإنطلاقة السريعة المتضمنة لكل الإمكانيات التي كانت معرّفة في السابق. فالأمر إذن يتعلق بتخطي العقبات التي تحول دون التطور، وتمنع من إستكمال مقومات الذات، وتحول دون تحقيق الهدف المنشود، كالإنسان المريض الذي يقوم من فراش الموت ويحاول أن يمشي على قدميه. فلابد من الإهتمام بهذا التقدم الذي إنطلاق في نفس اللحظة التي إنطلقت فيها حركة التحرير. وهذه الظاهرة بدأت الناس يتساءلون عن عواملها الأساسية وشرارتها الأولى التي تتالت من بعدها الشرارات الأخرى، في حركة سريعة منسجمة.

 

وضع حد للتردد والتسويف

يجدر بناإذن نهتم بتلك اللحظة الموعودة لتنفيذ القرار التاريخي الذي وضع حدا للتردد والتسويف عاما بعد عام، وأن نتذكر دائما ذلك الرعيل المجهول الذي أطلق الرصاصة الأولى. ولكن الزهم من كل هذا هو مشاركة الشعب المناضل مشاركة فعالة، لأن هذه المشاركة هي الدعامة الأساسية للعمل الثوري، إذ منها إستمد هذا القرار التاريخي واليها يعود أولا وآخرا.

ومما لاجدال فيه أن النضال السياسي عن طريق الأحزاب لايمكن أن يؤدي، مهما كانت الأحوال، إلى الإستقلال الحقيق، أو إلى التقدم والرقي السريع الشامل، خاصة إذا كانت مصالح الإستعمار كثيرة، وعدد المستوطنين كبيران. ولقد يقال بزن هذا الحكم لايصدق على إفريقيا السوداء. ولكن السرّ في ذلك يرجع الي حرب الجزائر التي عجلت بإستقلالها. والمستعمرون يعرفون هذا جيدا، إذ نجدهم يطمئنون إلى فكرة العمل المسالم الذي تدعو إليه بعض التشكيلات السياسية والأحزاب  في البلدان المستقلة ذات الأنظمة البرجوازية... ويعرفون أيضا بأن العقبات الكبرى القائمة في الأقطار غير المستقلة،  وتطورها الزائف، وعجزها عن تلبية إرادة الشعب المتمثلة في الكفاح المسلّح، وعير ذلك من النقائص الملحوظة لدى الأحزاب السياسية المفتقرة للحرية الخلافة لوسائل الكفاح، هذه النقائص من شأنها أن تؤدي إلى القطيعة بين تلك الأحزاب وبين السواد الأعظم من جماهير الشعب، وبالتالي، إلى التقاعس في العمل من أجل تحرير الجماهير.

وبعبارة أخرى، فإن تحرير الوطني في المستعمرات أو المحميات ذات الإستيطان الأوروبي الكثيف المنظم (كالجزائر على الأخص)، هذا التحرير يستلزم أسلوبا آخر غير الأساليب »المشروعة« والسبل المعقدة التي قد تجدي على المدى الطويل، إلا أنها لاتغير من واقع الإستعمار إلا من حيث الظاهر ، ولاتخفف من وطأته، بل قد يتخذها الإستعمار  تعلّة للإدعاء بأنه إستطاع أن يقيم نظام حكم ديمقراطي في تلك المستعمرات والمحميات. أن التحرير بالطريقة المباشرة، بل بالطريقة العنيفة، ما كان ليتحقق في الجزائر إلا بأسلوب الإنتفاضة المفاجئة، وبمشاركة الجماهير الغفيرة، بعيدا عن الأساليب الحزبية القائكة على المساومة وتنصيب الزعماء والقادة ومن يتعاون معهم، فيخادعون الشعب الذي ينساق لهم بعض الوقت طائعا، ولايكلفون أنفسهم مشقة تنظيمه وإعداده للحرب، وإذا  مثلنا لذلك بجزب مصالي الحاج، المعروف بإتجاهاته الخرقاء وتصرفاته الإرتجالية، فإن الحزب ـ في أحسن الإحتمالات ـ قد يعلن حالة الإستنفار، ولكن هذه المبادرة لن تدوم إلا أياما قلائل، وستكون ذات عواقب وخيمة، لأن الإستعمار لاينتظر إلا أمثال هذه التصرفات المرتجلة لكي يتدخل بأساليبه الوحشية.

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية ضد الجزائر المحروسة /عبد الحميد بن باديس والحركة الاصلاحية / المؤلف صالح مختاري

عبد الحميد بن باديس والحركة الاصلاحية

في أواخر القرن الماضي، والجزائر تمر بأيام حالة في ظل الاحتلال الفرنسي ولد عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة في شرق الجزائر يوم 04 /12/ 1889 من بيت يتمتع بالشهرة الواسعة والثراء العريض.

فأبوه محمد بن مصطفى بن مكي بن باديس إقطاعي كبير، تقلد العديد من المناصب العالية وأمه زهيرة بنت علي بن جلول من أسرة مشهورة في قسنطينة هي أسرة (عبد الجليل).

تعد أسرة ابن باديس أسرة عريقة ومشهورة غي الجزائر نبغ منها شخصيات تاريخية لامعة، منها بلكين بن زيري والمعز بن باديس.

تعلم عبد الحميد بن باديس القراءة والكتابة في منزل والده من دون أن يذهب إلى الكتاب، أو يلتحق بالمدارس الفرنسية كغيره من أبناء العائلات البرجوازية لأن والده فضل أن يربيه تربية إسلامية خالصة بعد أن بلغ الثالثة عشرة من عمره أتم حفظ القرآن على حافظ خاص هو الشيخ (محمد المداسي) إذ كان الشيخ معجبا بذكاء الصبي وسيرته الطيبة، فقدمه لإمامة المصلين في صلاة التراويح ثلاث سنوات متتابعة في الجامع الكبير بقسنطينة، ولا شك أن هذا النشاط في مثل سنه المبكرة، قد لفت أنظار قومه إليه، وحفزه على العلم كما إختار له والده أحد الشيوخ الصالحين من ذوي المعارف الإسلامية هو أحمد أبو حمدان الونيسي".

زواجه:

في عام 1904، وعندما بلغ ابن باديس الخامسة عشرة من عمره زوجه والده من فتاة مترفة من كبريات الأسر في قسنطينة وأنجب منها ولد أسماه "عبده اسماعيل" توفي وهو صغير ثم وضع ابن باديس حدا لعلاقته الزوجية بالطلاق، ليتفرغ للعلم والدراسة.

سافر ابن باديس إلى مدينة تونس سنة 1908 ليلتحق بجامع الزيتونة أين حصل هناك على شهادة التطويع (العالمية) سنة 1912.

وكان يحب الخلوة في حجرته للمطالعة والتفكير في المستقبل الجزائر ويناقش شيوخه في مناقشات عميقة واعية.

عندما أكمل دراسته في جامع الزيتونة، رجع إلى بلاده وشرع في إلقاء الدروس في الجامع الكبير ثم أتجه إلى المشرق، فغادر الجزائر سنة 1913 متجها إلى المدينة المنورة في طريقه إلى الأراضي المقدسة مكث في مصر بعض الوقت واستقر بعد ذلك في المدينة المنورة أين التقى بشيخه الونيسي والشيخ "حسين الهندي"، ثم قرر العودة بقصد خدمة وطنه.

وصل ابن باديس إلى قسنطينة سنة 1913، أين صار يلقي دروسا في التعليم  والوعظ متطوعا وبقي يناضل وحده في هذا الميدان حتى أنشئت جمعية العلماء وجاء نتيجتها عدة مدارس وكتاتيب.

هناك مؤشرات ساهمت في تكوين شخصية ابن باديس من النواحي النفسية والفكرية والاخلاقية والوطنية منها عامل الاسرة (ةالده) والبيئة العلمية والدراسية التي تنشأ فيها بالإضافة إلى المعلمين والشيوخ الذين نموا إستعداده وتعهدوه بالرعاية والتوجيه.

تأثر ابن باديس كذلك بالحركة الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد العزيز الثعالبي....

شخصية ابن باديس: يعتبر الشيخ عبد الحميد مفسرا قديما للقرآن الكريم وقد كرس لتفسيره ربع قرن من حياته وتفكيره منصبا على أن يجعل من التفسير مبدأ إنطلاقة لنهوض الأمة الجزائرية وأساس هديه في الدراسات العلمية والإصلاح الديني والتربوي.

وقد كتب محرر الشؤون الثقافية في جريدة "Le petit matin" الفرنسية الصادرة في تونس عن مقدرة الشيخ الخطابية حيث يقول "والشيخ عبد الحميد بن باديس يمثل حقا الزعيم الخطيب، فهو قد ملك مقاليد الكلام وهبوته الناري يستفز الجماهير فيثير الحروب، أو ينزل في القلوب سكينة السلام كما أنه يعد شاعرا موهوبا يقرض الشعر وينظمه على قلة، وشعره سلس، عذب، يمتاز بالبساطة وصدق العاطفة والبعد عن الغريب، إضافة إلى كونه صحفيا بارزا يعرف مزايا الصحافة وأهميتها ويقدر فيها ما تستطيع أن تبثه في الشعب من وعي ويبدو أن الصحافة كانت تستهويه منذ وقت مبكر، فقد يبدأ الكتابة في جريدة النجاح القسنطينية التي إشترك في تأسيسها مع عبد الحفيظ الهاشمي سنة 1919م. وأصدر في يوليو 1925 جريدته الأولى "المنتقد"، واتخذ لها شعارا جريئا هو الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء ولكنها لم تعش طويلا حيث أوقفتها الإدارة الاستعمارية، لتخلفها في نفس العام جريدة "الشهاب" الأسبوعية التي تحولت بعد أربع سنوات من صدورها إلى مجلة شهرية ظلت مستمرة في الصدور حتى أوقفها إبن باديس من تلقاء نفسه بعد نشوب الحرب العالمية الثانية 1939 وأسهم طذلك في تولي رئاسة تحرير جرائد جمعية العلماء وإصدارها وهي "السنة"، "الصراط"، "الشريعة" قبل أن تصدر قرارات التعطيل والحظر الخاصة بها.

تعد شخصية ابن باديس، شخصية عجيبة لا تماثلها إى شخصية جمال الدين الأفغاني في ثرائها وشمولها، من حب الخير والجرأة والشجاعة والإخلاص للمبدأ وعدم المجاملة فيه. وهو قائل إن كل التعريفات تدل على أن الأمة الجزائرية (الكيان الجزائري) كانت قائمة على أساس صحيح ومحدد عند الإعتداء الفرنسي، فقد كانت لها حدودها الجغرافية الخاصة وحكومتها، ورئيس دولتها وجيشها وعملتها وعملها. كما كانت لها علاقات دبلوماسية مع فرنسا نفسها ومع إنجلترا، أمريكا، إسبانيا.. وقد كان لهذه الأمة الجزائرية لغتها الخاصة، ودينها وتاريخها وعادتها، وكان لها قبل كل شيء شعور وطني مشترك.

ومن خلال حياته القصيرة (51 سنة)، عاش وفيا محافظا على العهد فقد قال بمناسبة الاحتفال بختم القرآن:"إنني أعاهدكم على أن أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما، وإنها لواجبات وأني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم".

وبقي بعد ذلك محافظا على العهد حتى وافاه الأجل المحتوم مساء الثلاثاء الثامن من ربيع الأول 1359 هـ الموافق لـ 16 أفريل 1940، بعد أن كتب في العديد من القضايا الدينية والتربوية والسياسية مضمنا كتابته آراءه في الموضوعات التي كانت مطروحة في عصره.

إن حياة ابن باديس، حياة خصبة حافلة وضعها بفكره وقلمه، وسخرها لنفع وطنه وأمته، وأفعاله وفيرة متنوعة لا تتسع الصحائف الكثيرة لاستقصائها فلم يكل يوما عن الفكر والعمل منذ أن كان طفلا يتلقى العلم إلى أن توفاه الله، فكان يعلم الصبية نهارا ويفسر القرآن ليلا، ويعتلي منابر الخطابة في النوادي والمحافل فيعظ ويلقي محاضرات ويترأس جمعية العلماء، ويحرر الصحف والمجلات، ويكتب المقالات وينشرها ويدافع عن الإسلام ويرد على منتقديه، ويراسل زعماء الإصلاح وعلماء الإسلام ويبادلهم الرأي.

وبوفاة العلامة الكبير الشيخ ابن باديس فقدت الجزائر والأمة العربية عامة رائدا من أكبر رواد الثقافة والحضارة العربية والإسلامية ورمزا من رموزها.

رأي إبن باديس

في الدين والسياسة

ولا نعني بهذا أننا نخلط بين الدين والسياسة في جميع شؤوننا، ولأن يتدخل رجال الدين في سياستنا، وإنما نعني اعتبار الدين قوما لنا ومهيعا شرعيا لسوكنا، ونظاما محكما نعمل عليه في حياتنا وقوة معنوية ناتجيء إليها في تهذيب أخلاقنا وقتل روح الإغارة والفساد منا وإماتة الجرائم من بيننا فلهذا لا نألوا جهدا في خدمته بنشر مبادئه الحقة العالية. وتطهيره من كل ما أحدثه فيه المحدثون والدفاع عنه من أن يمس بسوء من أهله أو من غير أهله.

المنتقد جويلية 1925.

في النقد الصحفي

إنتقادنا طريق الحقيقة المجردة والصدق والإخلاص والنزاهة والنظافة في الكلام، وننشر كل انتقاد يكون على مبدأ الإنصاف الذي لا يتوصل للتفاهم والحقائق إلا به.

هذه مبادئنا وسيرضى عنا بها الأحرار المفكرون أصحاب الصدور الواسعة والقلوب الكبيرة من المواطنيين والفرنسيين، وسيغضب بها علينا المستبدون الظالمون والدجّالون وصغار الأدمغة وضيقوا الصدور مخن بغاث البشر".

                                                                                     المنتقد جويلية 1927

في أدبيات الحوار

نقول لجميع الكتاب من الجانبين بلسان الدين والأخوة الإسلامية هاته الكلمة: أقلعوا عن المهاترة والمشاتمة والمغامزة والملامزة مما هو حرام بإجماع المسلمين ةاسلكوا طريق القرآن الكريم بيان لقول الخصم بدوت تعرض لشخصه وإقامة للحجة التي ترده عليه من حسن السلوك والقصد في الوصول إلى الحقيقة والإذعان لها إذ ظهرت على أي لسان، ومع الشعور بأن الراد والمردود عليه إخوان يريد كل واحد منهما أن يهدي أخاه إلى ما يراه خيرا له ويصرفه عما يراه شرا"

                                                                                     الشهاب جوان 1927.

دعوة ابن باديس للتفتح على الآخر

"كن ابن وقتك تسير مع عصر فكرك وفي عملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك"

ثم ينصح بضرورة مخالطة الأخر

"فعلينا أن نخالطهم في ديارهم حيث مظاهر مدنيتهم الفخمة في مؤسساتهم العلمية والصناعية وعظمائهم أصحاب الأدمغة الكبيرة التي تمسك بدفعة السياسة وتدير دواليب التجارة وتسيّر سفينة العلم، فالذين تخالطونهم هذه المخالطة بتمام تبصر وحسن إستفادة يخدمون أنفسهم وأمتهم خدمة لا تقدر، خدمة تكون أساسا للتقدم والرقي.

"فضروري لكل أمة تريد أن تستثمر ثمار تلك العقول الناضجة وتكتنه دخائل الأحوال الجارية أن تكون عالمة من لغات أوروبا وكل أمة جهلت جميع اللغات الغربية فإنها تبقى في عزلة عن هذا العالم، مطروحة في صحراء الجهل والنسيان".

                                                                                     الشهاب فيفري 1926.

 

الحياة العائلية للشيخ عبد الحميد بن باديس

تزعم العلامة عبد الحميد بن باديس الحركة الإصلاحية في الجزائر وكابد من أجلها الصعاب وكافح حتى تظل مقومات الشخصية الوطنية مغروسة في الأفئدة وجلية في السلوك، وقد مثل نضاله وثلة من زملائه صورا حية للبلاء الحسن في ظل الصراع الحضاري بين بلدان الشمال والجنوب والذي شهده القرنان المنصرمان...

هذه المرة سوف نقف على سجل الحياة العائلية للإمام ابن باديس، من خلال جلسة جمعتنا منذ سنوات وأخيه "عيد الحق بن باديس" الذي يستهل شريط الذكريات بمكان يسمى سيدي قموش، وهو ملك العائلة، وذلك قبل إنشاء مدرسة التربية والتعليم، وقد عمل على تأسيس جمعية للعلما على مستوى مدينة قسنطينة، لكنه عندما بدأ يتسرب إليها أشخاص خبثوا إلى الحكومة الفرنسية والذين كانت لهم أغراض مناقضة تمام للأهداف السامية التي كان ينشدها الإمام، لذلك فسخ هذه الجمعية...".

ويمضي عبد الحق في سرد أنشطة أخيه عبد الحميد بقوله:"إنني درست على يد الشيخ مدة ثلاثة سنوات وقد كان يلقي دروسه الأولى غي الجامع الأخضر، وذلك بعد ما منعه المفتي من التدريس بالجامع الكبير عندئذ أخرج له الأب رخصة للتدريس بالجامع الأخضر، وبعد تطور عدد الطلبة أصبح يدرس في سيدي قموش وسيدي بومعزة وسيدي الأخضر ويعاونه في ذلك بعض طلبته.

وفي هذا السياق يوضح عبد الحق بأن الشيخ عبد الحميد لم يدرس بتاتا باستخدام السبورة، حيث كان يفرش جلدا من جلود الغنم عن حلقة الدروس. علما أنه يبدأ درسه الأول بعد صلاة الفجر، وبعد تناوله فطوره بعين المكان يستمر في إلقاء الدروس لغاية الساعة الحادية عشرة صباحا، ثم يعود إلى المنزل للغذاء، وبعد ذلك يأخذ قسطا يسيرا من الراحة، ثم يعود لإلقاء الدروس لوقت صلاة العصر، وبعدها يعرج على مكتبه ليضطلع بأعمال الصحافة ومتابعة عملية النشر من أولها إلى آخرها وعقد الاجتماعات.. أما بعد صلاة العشاء فيشتغل في التفسير والفتاوي..

وهكذا يقضي كل أيامه على هذا النحو، حيث لا يبقى في اللبيت إلا ناردا كما أنه في غالب الوقت يتناول وجبات الأكل خارج المنزل.

أما يوم الخميس والجمعة فله في الغالب برنامج خاص،ينتقل يوم الأربعاء مساء في القطار الجزائر العاصمة للألتقاء بأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والقيام بالأنشطة المطلوبة للدعوة، وفي يوم السبت يستأنف سلسلة دروسه المعتادة.

وعن الضغوط التي كانت تتعرض لها عائلة الإمام ابن باديس، يقول عبد الحق:"إن جهاد الشيخ كان يقل الاستعمار الفرنسي كثيرًا، وقد حاولت إغراءه ببعض المناصب، كما حاولت تسميته بشيخ الإسلام، لكنه رفض هذا وذاك، وقد اضطر والدي الذي كان يشتغل في الزراعة وبيع المواشي إلى بيع مزرعة هامة في وادي زناتي حتى يستطيع تسديد الديون، لأن الحكومة الفرنسية ضغطت على البنوك لكي لا تتعامل مع والدي بسبب جهاد عبد الحميد.

وقد صمد الشيخ عبد الحميد أمام شتى أنواع الضغط والإغراء وأصر على مواصلة الدعوة الاصلاحية، والتضحية بوقته من أجل ذلك وكان يقول لنا في العائلة:"مادمت لم أوذ، ولم اضرب من أجل الدعوة فانني لم أؤد واجبي...

لقد كان الشيخ عبد الحميد باديس كما يقول شقيقه قليل الكلام في المنزل وإذا كان هناك ضجيج أو هرج يتحول فور دخول الشيخ عبد الحميد إلى هدوء احتراما له، كما أنه كان لا يحدثهم عن المشاكل والمضايقات والصعوبات التي كان يتعرض لها من قبل الاستعمار أو أصحاب الطريقة.

وقد سألنا عبد الحق عن إحساسه بتخصيص يوم العلم لذكرى وفاة العلامة ابن باديس فعبر لنا عن شعوره بقوله:"هذا إعتراف بالجميل للشيخ الذي كرس حياته لإصلاح الأمة، خاصة أنه كان دائما يقول لنا لمن أعيش ! إنه عاش لخدمة الإسلام والعروبة والوطن.

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية على الجزائر المحروسة /جذور الحزب الشيوعي الجزائري / المؤلف صالح مختاري

جذور الحزب الشيوعي الجزائري.

أسس الحزب الشيوعي الفرنسي فرعا له بالجزائر ابتداء من عام 1924  وضل تابعا له لمدة إثنتي عشرة سنة، وكان مكونا من العمال الجزائريين والأوروبيين، ولكن أغلبية الأعضاء المنخرطين فيه والمسيرين له من الأوروبيين. وقد دافع هذا الحزب عن مطالب العمال الجزائريين بالمهجر ومن خلاله تعلموا وسائل النضال والكفاح، كما كان في البداية من المساندين لإستقلال الجزائر نظريا والمنديين بقانون الأهالي وجميع القوانين الإستثنائية التي أصدرتها فرنسا على الجزائريين، كما وقف  ضد أنصار الإندماج وندد بالإحتفالات المخلدة لمرور مائة سنة عن إحتلال الجزائر، وطالب برحيل الإستعمار والإمبريالية عن الجزائر، والحقيقة أنه كان يدافع عن طبقة البروليتاريا ضد المستغلين الأوروبيين، إلا أنه لم يعان الحرمان الذي كان  مسلطا على الشعب الجزائري، ولذا لم يؤمن يوما ما بحق الشعب الجزائري في الإستقلال والحرية. ونظرا للتقدم الضئيل للشيوعية  في أوساط  الجماهير الشعبية الجزائرية والأوروبية وعدم تمكنه من إيجاد قاعدة هامة تمثل هذا التيار، طالب الحزب الشيوعي الفرنسي من الأوروبيين تأسيس حزب شيوعي جزائري، وذلك ما تم في المؤتمر التأسيسي الذي إنعقد بالجزائر العاصمة يومي 17 و 18 أكتوبر 1936م، ولكن بقي خاضعا لتوجيهات الحزب الأم بفرنسا والذي هو بدوره عنصر من عناصر الأممية الشيوعية. وبعد أن كان من قبل يؤيد إستقلال الجزائر أصبح من عناصر الأممية الشيوعية. ليصبح فيما بعد من دعاة الإندماج،  فلقد كان من مناصري مشروع بلوم فيوليت الإندماجي، ولذا ساند مطالب المؤتمر الإسلامي لعام 1936، وعلى إثر الأحداث الدامية التي ذهب ضحيتها الشعب الجزائري أصدر الحزب الشيوعي الجزائري يوم 03 ماي 1945م  بيانا هاجم فيه حزب مصالي واتهمه بالفاشية والنازية وحمله مسؤولية المجازر.  وفي المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي

 


 الفرنسي الذي إنعقد عام 1945م قال مندوبو الحزب الشيوعي الجزائري مايلي: "إن الذين يطالبون إستقلال الجزائر هم من وعي أو غير وعي، عملاء لدولة إستعمارية أخرى.... ويعمل الحزب الشيوعي الجزائري ويناضل لتقوية أواصر الوحدة بين الجزائريين والفرنسيين"

وخرج المؤتمرون بقرار مؤيد لبقاء السيادة الفرنسية على الجزائر وتشجيع عملية الإندماج، وعارضوا الأفكار الإستقلالية بحجة أنها لا تخدم المصالح الجزائرية والفرنسية. ولم يكن لهذا الحزب أي ثقل أو تأثير سياسي في أوساط الجماهير الشعبية الجزائرية، بل لم يكن يؤمن حتى بوجود أمة جزائرية، ويقول في هذا الصدد "إنّ الأمة الجزائرية هي في طور التكوين. وعند إندلاع ثورة نوفمبر 1954 وقف الحزب الشيوعي الجزائري موقفا مناهضا لها، بحجة أن الحزب لا يوافق على دعم الحركات الفردية والمشبوهة، والتي  تحاول لعب الدور السيئ في الحركة الإستعمارية.

ورغم النداءات المتكررة من حزب جبهة التحرير الوطني له للإلتحاق بالثورة إلا أنه رفض المشاركة، وطلب من أعضائه عدم الإلتحاق بها وتدعميها، لكن بعض المناضلين الجزائريين المنخرطين فيه انضموا إلى الثورة بصورة فردية. وكان يرى بأن أسباب الثورة راجع للحالة الإقتصادية والإجتماعية التي يعيشها الجزائريون، وبقي يمارس نشاطه السياسي بعد ثورة نوفمبر ويشارك في الإنتخابات، ويتخذ المواقف إلى أن حل كغيره من الأحزاب الجزائرية بقرار من وزارة الداخلية الفرنسية سنة 1955م، أما نواب الحزب الشيوعي الفرنسي فساندوا سنة 1956 م كغيرهم من نواب اليمين والإشتراكيين السياسة العدوانية لفرنسا، وخولوا بالإجماع حكومة غي مولي السلطة المطلقة في الجزائر.

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية على الجزائر المحروسة /ظروف ميلاد حزب اتحاد الشعب الجزائري واطروحة الاندماج / المؤلف صالح م

ظروف ميلاد حزب إتحاد الشعب الجزائري وأطروحة الإندماج

 

تأسس هذا الحزب على يد فرحات عباس سنة 1938م، وهو من مواليد مدينة الطاهير جيجل يوم 24 أكتوبر 1899م، عاش صغره في وسط الفلاحين، وهو على خلاف مع مصالي الحاج لا يؤمن بإستعمال العنف للوصول إلى أهدافه السياسية، وهو من عائلة غنية سمح له مركز أبيه الذي كان يشغل منصب قايد لدى السلطات الفرنسية في مواصلة تعليمه بالمدارس الفرنسية الموجودة بالجزائر، ونال جميع الشهادات الإبتدائية والثانوية والجامعية، وتخرج عام 1931 م صيدليا وفتح صيدلية بمدينة سطيف واشتغل بها، تزوج بفرنسية، ووافته المنية بالجزائر يوم 24 ديسمبر 1985م، ومن مؤلفاته: الشاب الجزائري، ليل الإستعمار، تشريح حرب الذي صدر عام 1980م، الإستقلال المصادر عام 1984م.

دخل المعترك السياسي بداية من عام 1922 م وكان قبل تأسيسه لحزب إتحاد الشعب الجزائري من أنصار الأمير خالد، ولمّا نفي هذا الأخير إلى دمشق أنشأ سنة 1927 م مع مجموعة من النخبة الجزائرية المثقفة المعروفين بميلهم للفكر الإندماجي، أمثال الدكتور بن جلول وإبن تامي إتحاد النواب المسلمين الجزائريين. كما انتخب عام 1926 م رئيسا لجمعية الطلبة المسلمين الجزائريين، وأصبح سنة 1927م رئيسا لجمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا. وأثرت فيه المدرسة الفرنسية إلى درجة أن جعلته في بداية مشواره السياسي لا يؤمن حتى بوجود أمة جزائرية وهذا ما يتبين من خلال مقاله الذي ردت عليه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما ذكرنا سابقا وجاء فيه ما يلي: "إنني لست مستعدا للموت في سبيل الوطن الجزائري، لأنّ هذا الوطن لاوجود له، إنني لم أكتشفه، فلم أجد من كلمني عنه إطلاقا. إننا لا يجب أن نبني فوق الرمال. وإنني قد أبعدت بصفة باتة ونهائية كل خيال، لكي نربط مصيرنا بصفة نهائية مع الوجود الفرنسي بهذه البلاد".

وكان يرى في مطالب مصالي ضربا من الخيال، فانتهج سياسية الإندماج مع الإحتفاظ بالهوية الإسلامية للشعب الجزائري، لتحقيق مايصبو إليه، فبالنسبة إليه يمكن أن يكون الشعب الجزائري في نفس الوقت مسلم

 و فرنسي. إلا أنَّ أفكاره لم تجد صدى سواء لدى الشعب الجزائري أو السلطات الفرنسية، فلقد رفضت الحكومة الفرنسية سنة 1933 م إستقبال وفده الذي سافر إلى باريس، قصد الدفاع على مشروع فيوليت الإندماجي. ولم تتحقق أحلامه إلا بمجيئ حكومة الجبهة الشعبية سنة 1936 م، فشارك مع مجموعة من القادة السياسيين الجزائريين في تأسيس المؤتمر الإسلامي سنة 1936، وطالب بالمساواة في الحقوق بين الجزائريين والأوروبيين في إطار السياسة الفرنسية، وأيد مشروع بلوم فيوليت الإندماجي، والذي خيب في نهاية الأمر آماله، وكان نقطة بداية في تحول فكره السياسي، فلقد علمته تجربته السياسية من خلال إحتكاكه مع النواب الأوربيين في المجالس البلدية والبرلمان أن مطالبه السياسية غير مجدية وهذا رغم التنازلات التي رضى بها،  ولهذا تخلى عن فكرة الإندماج، فقال قولته المشهورة " إنّ وعودا قد أعلنت ولكن لم يتحقق شيء منها.... فتحرير الإنسان الأهلي سيكون مهمة الإنسان الأهلي نفسه، ولكي يتحقق ذلك لابد من تحريك الجماهير. لذلك فإن واجبنا يتمثل في شعار بالشعب من أجل الشعب، ونحن نأمل أن تعتمد الجزائر على الديمقراطية الفرنسية، ولكن تحتفظ بذاتها ولغتها وبعادتها وتقاليدها". ومن ذلك اليوم إعتنق مبادئ الوطنية الجزائرية فانفصل عن التيار الإندماجي الذي كان يتزعمه الدكتور بن جلول، وأسس سنة 1938 م حزب إتحاد الشعب الجزائري، وذلك من أجل تجسيد برنامجه السياسي الذي يتمحور حول محاربة الإستعمار والإمبريالية، فأصبح يطالب بإصلاحات سياسية وإقتصادية وثقافية تعبر عن إنشغالات الشعب الجزائري. كما شارك في صياغة بيان الشعب الجزائري الذي قدم للحلفاء سنة 1942م والذي رفضه الحاكم العام على الجزائر كاترو جملة وتفصيلا، وأكد أنَّ فرنسا لن توافق أبدا على إستقلال الجزائر. كما كان من المؤسسين لحركة أحباب البيان والحرية سنة 1944م إلى جانب جمعية العلماء وموافقة حزب الشعب، وكان يهدف من ورائه إلى تحقيق فكرة الجمهورية الجزائرية مستقلة ذاتيا ومتحدة فيدراليا مع فرنسا وأصدر لهذا الغرض صحيفة "المساواة"، ولقيت الحركة مساندة أغلبية الشعب وانضمت إليها مختلف شرائح المجتمع إلا أنها لم تعمر طويلا لسبب الخلاف الذي ظهر بين المصاليين وفرحات عباس، حول مطالب الحركة فبينما كان حزب الشعب يطالب بفكرة إنشاء برلمان وحكومة جزائرية، كانت فئة المعتدلين بقيادة فرحات تطالب بتأسيس جمهورية جزائرية مشتركة مع فرنسا. وعلى إثر حوادث 08 ماي 1945 م أوقف فرحات عباس وزج به في السجن رغم أنه لم يشارك في هذه الأحداث ولم يطلب صراحة إلا بإصدار العفو الشامل من الحكومة الفرنسية سنة 1946م. وقد تأثر كثيرا بهذه الأحداث مما جعله يبتعد عن حزب الشعب، وأسس الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بمدينة سطيف في شهر أفريل سنة 1946م، وشارك في انتخابات الجمعية التأسيسية الفرنسية الثانية ودافع في حملته الإنتخابية على سياسة الإندماج مع المحافظة على الشخصية الإسلامية للشعب الجزائري. وأيد قيام دولة جزائرية يكون فيها الجزائريون والأوروبيون متساوين في الحقوق وحصل على 11 مقعدا. وقدم عام 1946 م مشروع دستور الجزائر إلى الجمعية التأسيسية لكن رفضت البحث فيه. كما كان من المنددين الأولين بعمليات تزوير إنتخابات المجالس البلدية، ودافع على المرشحين المعتقلين من بينهم أعضاء حركة إنتصار الحريات الديمقراطية، وكلفه هذا العمل الطرد من الجمعية الجزائرية، وفي عام 1951م انضم حزبه إلى باقي الأحزاب الجزائرية المعارضة من جمعية العلماء وحركة انتصار الحريات الديمقراطية والحزب الشيوعي الجزائري، وانبثق عن هذا التجمع "الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحريات الديمقراطية واحترامها"، وتتمثل مطالبها في إلغاء نتائج الإنتخابات التشريعية، وإحترام حرية الإقتراع في إنتخابات الدرجتين، مع إحترام الحريات الأساسية للعقيدة والفكر والصحافة و الإجتماع، ومقاومة الإضطهاد بكل أشكاله، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقليين السياسيين، والفصل بين العقيدة الإسلامية والدولة، ولم تعمر هذه الجبهة طويلا. وفي 07 أفريل 1956م أعلن فرحات عباس في مؤتمر صحافي بالقاهرة إنضمام حزبه إلى جبهة التحرير الوطني، ووضع نفسه في خدمة الثورة، وهذا ما تحقق له إذ أصبح أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة من سنة 1958م إلى غاية 1961، وبعد الإستقلال رفض فرحات عباس أن يكون في نظام الحزب الواحد. فدخل في خلافات سياسية مع الرئيس أحمد بن بلة واستقال من الجمعية العامة في بداية الستينات.

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية على الجزائر المحروسة /حزب الشعب وحركة انتصارالحريات وميلاد المنظمة السرية /المؤلف صالح مخ

حزب الشعب الجزائري وحركة إنتصار الحريات الديمقراطية

وميلاد المنظمة الخاصة

 

حزب الشعب الجزائري هو إمتداد لنجم الشمال الإفريقي الذي حلته حكومة الجبهة الشعبية يوم 26 جانفي 1937، لأفكاره الإستقلالية، ورفضه المشاركة في الحرب الأهلية بإسبانيا إلى جانب الجمهوريين، وتم تأسيسه من طرف مصالي الحاج يوم 11 مارس 1937م بمدينة ننتار الفرنسية، وبقي وفيا لمبادئ النجم المتمثلة في إلغاء قانون الإندجينا والمطالبة بالمساواة في الحقوق وحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره عن  طريق الإستقلال، ودخل إلى ساحة النضال السياسي بحزب منظم ومهيكل هادفا من ورائه إستقلال الجزائر، ولقي ترحيبا كبيرا في أوساط الطبقة الشغيلة بالمهجر وداخل الوطن، وضم في صفوفه مختلف شرائح المجتمع الجزائري المتحمس لقضية شعبه بما فيه العمال والفلاحين والتجار وأسس فروعا في مختلف القطر الجزائري.

وفي ربيع 1937 م عاد مصالي الحاج إلى أرض الوطن والتقى بمناضليه وعقد معهم عدّة إجتماعات، فاستهل الحزب نشاطه بالدعوة إلى الإضرابات والمظاهرات، وكانت جريدة الأمة والمنشورات توزع على الجزائريين  تحثهم على النضال ونشيدها فداء للجزائر للشاعر مفدي زكريا، يسمع في مختلف المهرجانات العامة والخاصة، جاعلة من العلم الجزائري ذو اللون الأخضر والأبيض ويتوسطه هلال ونجمة رايتها، وازداد التحمس والشعور بالوطنية لدى الجزائريين. ولما شعر الإستعمار بخطورته اعتقل مصالي وأصحابه بتهمة التحريض على أعمال العنف، وأودعوا في السجن وحكم عليهم بسنتين، فقاموا بإضراب عن الطعام مدة أسبوع، وتحصلوا على نظام السجين السياسي، وكانوا يعقدون في سجن الحراش إجتماعات ولدت على إثرها جريدة نصف شهرية تسمى "البرلمان الجزائري"، وقام الحاكم العام بالجزائر بحملة إنتقامية على أعضاء حزب الشعب، حيث توفي مسؤول حزب الشعب على الجزائر السيد أرزقي لكحل في السجن. وفي سنة 1939 م شارك حزب الشعب في الحملة الإنتخابية التي نظمتها السلطات الإستعمارية وزورتها رغم فوزه الساحق. وفي بداية الحرب العالمية الثانية يوم 26 سبتمبر 1939م حل رئيس الجمهورية الفرنسية ألبر لبرون Albert Lebrun حزب الشعب الجزائري ومنعت جريدة الأمة والبرلمان الجزائري من الصدور، واعتقل الكثير من مناضليه داخل وخارج الوطن، وعلى إثرها دخل حزب الشعب في السرية طوال الحرب العالمية الثانية 1939 م ـ 1945 م، وجند الشباب الجزائري للمشاركة في الحرب، وأثناء حكم الرئيس الفرنسي فيشي Vichy طلب من مصالي التعاون معه لكنه رفض، فحكم عليه يوم 17 مارس 1941 م بعقوبة 16 سنة أعمالا شاقة وبالإبعاد عن الأرض الفرنسية والجزائرية لمدة عشرين سنة، وبغرامة مالية قدرها ثلاثون مليونا من الفرنكات وذلك بحجة المساس بأمن الدولة.

وخلال الحرب العالمية الثانية اتصل بعض أعضاء حزب الشعب بألمانيا النازية رغم معارضة قيادة الحزب، وذلك بغية مساعدتهم على استقلال الجزائر ولكنها كانت بدون جدوى، ولما نزل الحلفاء الأمريكان والبريطانيون بأرض الجزائر عام 1942 م إتفق الوطنيون الجزائريون  بما فيهم أعضاء من حزب الشعب وجمعية العلماء على صياغة بيان يقدم للحلفاء، وكلف لهذا الغرض وفد برئاسة فرحات عباس للإتصال بهم، وقدم البيان للحاكم العام بالجزائر مارسيل بارتان ولممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا والإتحاد السوفاتي والى الجنرال ديغول، الذي كان يوجه المقاومة الفرنسية من بريطانيا. وتضمن هذا البيان شروط تدعيم الشعب الجزائري للجمهور الحربي والمتمثل فيما يلي: إلغاء النظام الإستعماري وتطبيق مبدأ حق الشعب في تقرير مصيره عند نهاية الحرب، إضافة إلى مجموعة من المطالب تهم الشعب الجزائري وتتعلق بالجوانب الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية. ووعدت فرنسا كعادتها إجراء إصلاحات شاملة بإنشاء دولة جزائرية ودستور خاص بها، وفي 14 مارس 1944 م انعقد تجمع ضم كل من فرحات عباس وجمعية العلماء وحزب الشعب نتج عنه "حركة أحباب البيان والحرية"، وفي 2 أفريل1945 م خرج المؤتمرون بمطالب تتضمن تأسيس حكومة جزائرية ودستور جزائري وبرلمان منتخب وجنسية جزائرية وعلم جزائري وأنشؤوا جريدة "المساواة"، ولقي هذا التجمع ترحيبا كبيرا لدى المجتمع، وبمناسبة عيد العمال 01 ماي 1945 م نادى حزب الشعب إلى مظاهرات على كامل التراب الوطني احتجاجا  على إعتقال مصالي ومناضلي الحزب، فغصت الشوارع بهم، وكانوا يحملون العلم الجزائري ولافتات مكتوبا عليها "أطلقوا سراح مصالي"، و"أطلقوا سراح المعتنقلين"، الإستقلال، وبمناسبة  إحتفال الحلفاء بنهاية الحرب العالمية الثانية يوم 07 ماي 1945 م اعتقد الجزائريون أن جزاءهم  بنهاية الحرب العالمية الثانية إلى جانب فرنسا والحلفاء سيكون الحرية والمساواة، فخرج الشعب إلى الشوارع يوم 08 ماي 1945 في مسيرات سلمية عبر التراب الوطني محتفلا بالنصر مع الحلفاء بطريقته الخاصة حاملا العلم الجزائري ولافتات تنادي بإطلاق سراح مصالي والمعتقلين وسقوط الإستعمار، وإستقلال الجزائر، وبالرغم  من الطابع السلمي للمسيرات حاولت السلطات الفرنسية منعها، فأمر وزير الداخلية الفرنسي مسؤولي الشرطة بإيقافها والإستيلاء على الأعلام واللافتات، لكن المتظاهرين صمدوا أمامهم  ثم أطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين، وكان أول ضحية الكشاف "بوزيد سعال" بمدينة سطيف، وانتهت المظاهرات بمقتل سبعة عشر جزائريا ومئات الجرحى كلهم من الشرق الجزائري، فتحولت إلى انتفاضة شعبية قتل على إثرها 80 معمرا فرنسيا، وفي اليوم التالي شرعت القوات الإستعمارية في تسليح الأوروبيين وجندت مختلف القوات العسكرية المتواجدة بالجزائر من بحرية وجوية وبرية أمام شعب أعزل لا يملك من القوة إلا إيمانه بإستقلال الجزائر، وارتكب العسكر أعمال قمع رهيبة، مست النساء والأطفال والشيوخ والشباب بمجرد الشك فيهم وبدون محاكمة، فحولت البلاد إلى حمام من الدماء، كانت نتيجتها مجزرة 08 ماي التي ذهب ضحيتها 45.000 جزائري من الأبرياء جراء الغدر الإستعماري، ودمرت على إثرها قرى بأكملها، فهي كما وصفها العلامة البشير الإبراهيمي "يايوم لك في نفوسنا السمة التي لاتمحى، والذكرى التي لاتنسى،  فكن من أي سنة شئت، فأنت يوم 08 ماي وكفى، وكل ما لك علينا من دين أن نحيي ذكراك، وكل ما علينا من واجب أن ندون تاريخك في الطروس، لئلا يمسحه النسيان من النفوس". ومست  هذه الأحداث بالخصوص كلّ من مدن سطيف وقالمة وخراطة، وأعلنت السلطات الإستعمارية حالة الطوارئ وطبقت القوانين الإستثنائية العرفية في كل البلاد، وألغيت كل الحريات الديمقراطية وشنت حملة واسعة على المناضلين السياسيين  الجزائريين بدون تفرقة بين الثوريين والإندماجيين، فأوقف العديد من مناضلي حزب الشعب، وحل تجمع أحباب البيان ودخل حزب الشعب في السرية. وعندما انتهى المستعمر من أعماله الانتقامية، قال الجنرالي دوفال DUVAL المسؤول الأول عن المجزرة مخاطبا الحكومة الفرنسية "منحتكم السلم لمدة عشر سنوات، ولكن لا تنخدعوا، كل شيء يجب أن يتغير في الجزائر". وإن لم تأخذ السلطات الفرنسية هذه النبوءة بجدية، فإن الشعب الجزائري استوعبت الدرس من أحداث 08 ماي واعتبرتها نقطة بداية لتحول مجراه التاريخي، فلقد أعادته هذه الأحداث للوعي بالحقائق الصعبة وكشفت له خرافة تحقيق الإستقلال بالوسائل السلمية.

فتحولت أنظار حزب الشعب إلى دول المغرب العربي قصد التحالف ضد الإستعمار، فاتصلت بكلّ من الحزب الدستوري التونسي وحزب الإستقلال المغربي ولكنها باءت بالفشل، وفي عام 1946 على إثر العفو العام الذي أصدره البرلمان الفرنسي، إستفاد منه كل المسجونين السياسيين بما فيهم مصالي الحاج وفرحات عباس، الذي ألقى عليه القبض أثناء حوادث 08 ماي 1945 م دون أن يشارك فيها، وأسس هذا الأخير حزب "الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري"، وشارك به في إنتخابات 02 جوان 1946 م، كما عاد مصالي من منفاه بكونغو ببرزافيل ودخل الجزائر وقدّم قائمته للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي لعام 1946م، ولكنها رفضت بحجة أن حزب الشعب قد حل عام 1939، فأسس في شهر نوفمبر 1946"حركة إنتصار الحريات الديمقراطية" كغطاء لحزب الشعب الذي بقى يعمل في السرية، ورغم تزوير الإنتخابات تحصل على 5 مقاعد. كما فاز في إنتخابات المجالس البلدية التي تمت في شهر  نوفمبر 1947  على أساس برنامج سياسي "مجلس تأسيسي جزائري". وفي سنة 1947  أصدرت الحكومة الفرنسية مشروعا  نص على أن الجزائر تكون مجموعة من العمالات المتمتعة بالشخصية المدنية وإستقلال مالي وبتنظيم خاص، وبحكومة عامة ومجلس جزائري، ويقسم أعضاء المجلس إلى فئتين متميزتين  60نائبا يمثلون 922000 فرنسيا و 60 نائبا يمثلون 7860000 جزائريا.

وأمام مصادرة حق الشعب الجزائري وتسلط الإستعمار في سياسته الجائرة فغير الحزب إستراتيجيته ولم يعد يرى إلا الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لنيل الإستقلال، فانعقد مؤتمر يوم 15 و 16 فيفري 1947 م ببوزريعة وضم أعضاء حزب الشعب وحركة إنتصار الحريات الديمقراطية أنشأت على إثره المنظمة الخاصة، والتي أصبحت فيما بعد نواة الحرب التحريرية عام 1954م، و صودق على نظامها الداخلي الذي عرف بالشدة والصرامة ومن شروط التجند والإلتحاف بها : الشجاعة والإيمان والثبات والكتمان والحيوية وسلامة الجسم، وكان يرأسها محمد بلوزداد، كما انتخبت اللجنة المركزية برئاسة مصالي الحاج، وقسمت المنظمة الخاصة إلى عدّة محافظات، قسنطينة محمد بوضياف، القبائل حسين آيت أحمد،

 الجزائر 1 ـ الجزائر ـ متيجة ـ تيطري جيلالي رغيمي، الجزائر 2  الشلف ـ الظهرة  عبد القادر بلحاج، وهران : أحمد بن بلة.

وبوفاة محمد بلوزداد  في إحدى مستشفيات باريس 1949 م إثر مرض خلفه آيت أحمد، ولكنه أبعد فيما بعد بسبب الأزمة البربرية التي عرفها الحزب المهجر، فخلفه أحمد بن بلة، وكانت من أهداف المنظمة خلق مخازن للأسلحة في مختلف القطر الجزائري وتدريب أعضائها على إستعمال السلاح للإستعداد  للثورة المسلحة، ومن أهم الأعمال التي قامت بها هذه المنظمة مهاجمة مركز البريد بوهران. ولما بلغت المنظمة قمة التنظيم أكتشف أمرها من طرف السلطات الإستعمارية إثر إلقاء القبض على بعض أعضائها بمنطقة تبسة عام 1950 م، فككت من بعدها السلطات الفرنسية هذه المنظمة، وألقت القبض على العديد من أعضائها بما فيهم قادتها أحمد بن بلة وآيت  أحمد والباقي دخل في السرية ومنهم من التحق بالجبال.

وفي صائفة عام 1951 م عرف الحزب أزمة داخلية بين مصالي واللجنة المركزية حول الزعامة، تعمق هذا الخلاف وتطور إلى حين إندلاع الثورة التحريرية. وأثناء قيام مصالي بدورة داخل الوطن ألقي عليه القبض في مدينة الشلف في 14 ماي 1952م نفي من بعدها إلى مدينة نيور Niort بفرنسا، ووضع تحت الإقامة الجبرية ومنها كان يدير الحزب.

وفي يومي 04 و 05 و 06 أفريل 1953 م انعقد بالجزائر العاصمة مؤتمر حزب الشعب وحركة إنتصار الحريات الديمقراطية، وضم ستين عضوا جاءوا من مختلف أنحاء القطر الوطني، تم على أثره المصادقة على مجموعة من القرارات تتعلق بالجوانب السياسية والثقافية والاقتصادية والإجتماعية. ونظرا لحدة الصراع الذي وقع بين جماعة مصالي واللجنة المركزية حول تسيير الحزب، فبينما كان مصالي يطالب بالسلطة المطلقة في قيادة الحزب، كانت اللجنة المركزية تدافع عن مبدأ القيادة الجماعية، وأدى هذا النقاش إلى مشادات عنيفة بين الطرفين، وفي هذا الخضم ظهر تيار ثالث غير منحاز للطرفين، أسس اللجنة الثورية للوحدة والعمل في يوم 23 مارس 1954 بمبادرة من قدماء المنظمة الخاصة وعلى رأسهم مصطفى بن بولعيد وكحل جذري للصراع والنقاش العقيم، الذي كان يدور بين أنصار مصالي والمركزيين، وشرعوا في العمل فورا في تنظيم الكفاح المسلح، ولهذا الغرض انعقد في شهر جوان 1954م إجتماع الأعضاء 22 للجنة الثورية للوحدة والعمل بصالمبي المدنية، والمتكونة من قدماء المنظمة الخاصة وتبنوا مبدأ الكفاح المسلح، وانبثقت من هذه المجموعة لجنة قيادية ضمت ستة أعضاء يرأسهم بوضياف، وفي نهاية شهر أكتوبر إجتمع الستة مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، رابح بيطاط، محمد بوضياف، ديدوش مراد وكريم بلقاسم، و أصدروا بيانا شرحوا فيه أسباب اللجوء إلى الثورة المسلحة، وقرروا أن يكون يوم إندلاع الثورة 01 نوفمبر 1954 على الساعة 00، واتصلوا بالزعماء الثلاثة الموجودين في القاهرة ليمثلوا الثورة في الخارج وهم أحمد بن بلة و آيت أحمد و محمد خيضر، وقسموا الجزائر إلى خمس مناطق وعينوا عليها مسؤوليها ونوابهم إلى المنطقة الأولى، الأوراس ويشرف عليها مصطفى بن بولعيد وينوب عنه بشير شيهاني، المنطقة الثانية: قسنطينة ويشرف عليها ديدوش مراد وينوب عنه زيغود يوسف، المنطقة الثالثة القبائل ويشرف عليها بلقاسم وينوب عنه عمر أوعمران، المنطقة الرابعة الجزائر، ويشرف عليها رابح بيطاط، وينوب عه سويداني بوجمعة، المنطقة الخامسة وهران، ويشرف  عليها العربي بن مهيدي، وينوب عنه عبد الحفيظ بوصوف.

أما مصالي  وأنصاره فقد رفضوا الإندماج في جبهة وجيش التحرير الوطني وأسسوا الحركة الوطنية الجزائرية، التي أصبحت  عدوا وخصما لجبهة التحرير الوطني أثناء كفاحها المسلح، إلا أن البعض من أعضائها تدارك الأخطاء وانضم إلى الثورة.

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية ضد الجزائر المحروسة /الاستعمار يبتكر اساليب جديدة في قهر الجزائريين /المؤلف صالح مختاري

الاستعمار يبتكر أساليب جديدة في قهر الجزائريين

وإذا انتقلنا إلى شارل ريشار فاننا نصل الى عهد بلغ فيه الفساد الاستعماري ملرحلة من أسوء المراحل. فقد تميز بالابتكار في أساليبه. أما نظريته في تجميع الأهالي – وهي النظريات التي انفرد بتطبيقها – فقد بعثت من جديد منذ 1958 للتنويه بهذا الاستعماري المتطرف الذي كانت له – فضلا عن هذا – تصرفات غريبة. فقد كان من أتباع سان سيمون ومن أتباع فوري في نفس الوقت، وكان يعمل في الفرع المسمى (كونسيديران Considérant) وهو أكثر الفروع تطرفا. ومن مشاريعه أن يضع المدفع والارسال البرقي (وهو من المخترعات الحديثة آنذاك) في خدمة الحضارة، ولكن على طريقته، أي بالجبر والقهر المادي والمعنوي.

وباعتبار أنه خريجي المدرسة المتعددة التقنيات، فقد سلك على الصعيد العسكري والاداري نفس المسلك الذس سلكه كافينياك، وعلى الأخص سانت أرنو الذي يبدو أنه كان من المعجبين به. وحالة هذا الضابط غريبة، بل هي فريدة. ولعل الاتجاه الذي اختاره في الجيش بحكم تخصصه العلمي، وهو سلاح الهندسة، قد أورثه الشعور بالنقض، لأن هذا الفرع كان يظهر إليه بشيء من الاحتقار من طرف الضباط المحاربين. ومن هنا ندرك لماذا كان يغالي في كل ما يقوله ويعمله، ولماذا كان حقودا الى حد الاجرام، سعيا وراء السلطة التي تنقصه. فهو الذي قال:" إن المدفع هو الصوت المدوي الذي يرفع راية الحضارة الانسانية، ويحطم الحدود التي تفصل بين الشعوب، ويرغمها على الاتصال من خلال الفجوة... ومما لاشك فيه أن الفائدة المحصلة من هذا الاتصال تكلف الدماء والدموع والآلام. ولكن العبقرية الخلاقة تنبثق من الأنقاض والخرائب التي تخلفها الحرب بعدها ..." وكان أول من تحدث عن ضرورة الغزو الأوربي للقارة الافريقية، وأخذ الاحتياطات لكيلا تتعرض أوربا للاحتلال على يد أتيلا * جديد يكتسبها انطلاقا من "عالم المتوحشين الذي يعج بالسكان " ومن حسن الحظ أن "الحضارة (الأوروبية) هي أقوى حاليا لأنها تملك جيوش الجرارة والعلوم العسكرية ." ان الحرب بين الأمم الأوروبية "لا قدّر الله، شيء حرام" ولهذا "فان الحرب الوحيدة التي فيها فائدة. والتي هي بالتالي مشروعة، هي الحرب التي نخوضها هنا (الجزائر). وإلينا نحن، الفرنسيين، ممثلي التقدم الانساني، وأحفاد سان لويس، الينا يرجع الفضل في أداء هذه المهمة السامية المجيدة. فلم نأت هذا المكان بناء على تصويت مجلس النواب، بل أتينا من أجل أداء واجبات مقدسة. ورغم كل الدسائس التي يقوم بها ذوو العقول الضعيفة المتخوفون دائما من المشاريع الكبرى، فسنبقى هناك للقيام برسالتنا المقدسة، مدفوعين في عملنا بالعناية الألهية ." ولكن، في ماذا تتمثل هذه الرسالة العظمى وهذه المشاريع الكبرى؟ هذا ما سيخبرنا به صاحب الرتبة العسكرية المتواضعة، قبطان سلاح الهندسة، والرئيس المتحكم في مكتب الشؤون العربية في مدينة الاصنام، باعتبار أنه كان – مع طائفة أخرى من أمثاله – مكلفا بأدائها. والنص أطول من أن نورده بتمامه. ويكفينا أن نذكر بأن شارل ريشار لم يكن يدخّر الثناء للجيش "البطل العظيم الذي اختارته العناية الآلهية ليحمى وينشر الحضارة الانسانية ." وقد تبنى أفكار بيجو الرئيبسية ودعا إلى تطبيقها: فهو يؤيد فكرة ابقاء 100.000 جندي في الجزائر، ويضاف إليهم جيش احتياطي يتألف من 20.000 من الجنود المتمركزين في ولايتي الفار وبوش دي رون، والمستعدين في كل لحظة للتدخل. ويضاف إليهم الحرس الوطني، وتضاف إليهم الميليشيا المدنية المجندة في وقت الحرب، ويضاف إليهم المعمرون العساكر. وكان من رأيه أن "كل من يعيش في هذا البلد (ويقصد الأوربيين) ينبغي أن يحمل السيف والبندقية ويعرف كيف يستعملها ."

على أن الحضارة التي يدعو إليها معقدة إلى أبعاد الحدود ويستلزم نشرها تجنيد جرّار. ومع هذا، فان النتيجة، وان كانت بعيدة، تدعو الى تفاؤل. وكل آت قريب على أية حال. وفي انتظار ذلك اليوم، لابد – حسبما يقول ريشار – "لابد من وضع هذا الشعب (الجزائري) تحت أرجلنا لكي يحس جيدا بما لنا من وزن، وعلينا بعد ذلك أن نخفف عليه الضغط تدريجيا لكي نجعله، بعد قرون (هكذا) يترقى الى مستوانا ويسير معنا في طريق التقدم الانساني ." ولكن الغريب في الأمر أن التقدم الانساني تنوسي في هذه الأثناء، بل أزيل وحورب كلما تعلق الأمر بالجزائر، أي بذلك الانسان المستهدف بهذه الرسالة التمدينية. فالمهم قبل كل شيء هو "ابقاؤه دوما في وضعية الضعيف المحتاج الى حمايتنا ." ويذهب ريشار إلى  أبعد من هذا فيقول "ومن الخطأ الفادح أن نستشيره حول ما قد يحتاجه، إذ نحن المسؤولون عن إختيار المؤسسات التي تلائمه وعن تطبيقها مهما كان رأيه فيها  " والحقيقة أن شارل ريشار يعرف جيدا بأن تمكين الأهالي من ممارسة الحقوق السياسية، حتى ولو في إطار السيادة الفرنسية، يناقض في حد ذاته مبدأ السيطرة الاستعمارية. ولهذا يقول: "وإذا ارتكبنا غدا خطأ تعميم مزايا ميثاقنا وتشريعاتنا لتشمل العرب الخاضعين لنا، فلن يبقى أمامنا جميعا إلا الرحيل  ومن حسن الحظ أنه توجد أساليب أخرى لنشر الحضارة عن طريق الخلاء والخراب.

وعلى سبيل المثال:" فلا نرى مانعا في أن يكون مآل هذه المؤسسات (ويقصد بها المدارس العربية والمساجد) الى الخراب، وأن يرجع الشعب العربي الى عهود الجهالة الأولى، وعندئذ سوف يتأتّى لنا أن تعلّمه شيئا وأن نكسبه الى صفّنا عن طريق التربية ."

وهناك أسلوب آخر أبدع فيه صاحبه، وسبق به، بحوالي 112 سنة، ما تقوم به حاليا السلطات الاستعمارية من تجميع للأهالي. يقول ريشار: "أول ما يجب القيام به لحرمان المشوّشين من كل دعم، هو تجميع السكان المتوزعين في مختلف الأماكن، وتنظيم القبائل الخاضعة لنا في زمالات " ثم يبادر الى إعطاء المزيد من التفاصيل:"ينبغي أن تكون الدواوير مفصولة عن بعضها بسياج من أشجار العنّاب البري أو بأي نوع الأحراج الأخرى. ويجب بعد هذا أن تحاط الزمالة كلها بخندق عميق مشوّك بالصبّار " ويمكن للفلاحين المجموعين في خيام، أن يخرجوا من المعسكر لأداء أعمالهم، ولكن لا يستطيع غيرهم أن يخرج منه إلا بأمر من السلطة الفرنسية. ويواصل المؤلف كلامه قائلا:"ولعله من السهل أن ندرك مزايا هذا النظام. فالعرب المحبوسون بهذه الكيفية سوف يكونون دائما تحت تصرفنا، ولن يأتمروا، من وراء خنادقهم، بأوامر عصابات بومعزة وخلفائه ." ولكن، بما أنه كان يتوقع الاعتراضات بسبب تكاليف هذا المشروع الضخم، وكذلك بسبب نفور الجزائريين من محاولات التجميع، لذلك سارع إلى الرد بما يلي:"ليس صحيحا ما يقال بأن هذا الإجراء يتنافى مع الطباع العربية. وهذا الأمر على أية حال ليست له اهمية كبرى." ثم يضيف في حاشية من كتابه:"اذا كان أحد الإجراءات مفيدا لنا، ومفيدا للشعب بالتعبئة، فلا نرى ما يمكن أن يمنعنا من تطبيقه ." وعلى أية حال توجد لهذا الأمر سوابق، وهو أدرى بها:"إن ناحية الأصنام في معظمها نظمناها على هذا الشكل أثناء الحرب ." ثم يمضي قائلا:"ونحن نعتقد إعتقادا جازما بأن فكرة إقامة هذه التجمعات من الخيام التي يبقى فيها الأهالي العرب رهن الاعتقال، هذه الفكرة تحمل في ثناياها السلام للبلاد. وذلك أن الأهم هو تجميع هذا الشعب المنتشر في كل مكان، ولكن اذا رحت تبحث عنه وجدته غائبا. فالأهم اذن أن نجعله رهن اشارتنا. واذا أمسكناه فاننا عندئد نستطيع أن نقوم بأشياء كثيرة هي الآن من قبيل المستحيل، وعندئد سوف نستحوذ على عقله بعدما استحوذونا على جسمه  ".

العمل النفساني

نستحوذ على عقله ! ان التاريخ يعيد نفسه، لأننا اليوم وجدنا هذه العبارة ضمن الأهداف والعبارات التي حددتها وأصبحت تستعملها مصلحة "العمل النفساني". والحقيقة أن سياسة الاندماج لا تقتصر في ميدان الدعاية على هذا العنصر بالذات (أي الاستحواذ على العقل). وقد ذكر المؤلف وسائل أخرى "هامة جدا"، وان كان يقرّ بأنها "قد تبدو قليلة الأهمية بالنسبة لبعض الناس". ومن بين تلك الوسائل التي اقترحها، اختلاق الأحاديث النبوية، وتلفيق الأقوال المأثورة التي تتنبّأ بدوام السيطرة الفرنسية، مع تكليف أحد الحجاج بوضعها خفية "تحت حجرة، عند ضريح محمد "والغاية من كل هذا هو أن يستأخر الاستعمار قرنا من الزمان الأجل الذي حدّده له المنجّمون المرتزقة.

وعندما يفكر القبطان ريشار في جزائر المستقبل، الجزائر "الأوربية" المتخلصة من كابوس الثورات، فإنه لا يملك نفسه من أن يشعر بالسرور والبشوق لذلك اليوم الموعود. ومن يقرأ كتاب ريشار يحس بأن هذا الشخص المتطاول قد تملكه الخوف من الثورات الشعبية:"قرن من الزمان ! انه أمد طويل. ولكننا اذا عرفنا كيف نتصرف خلال هذا القرن فسوف نخمد الثورات نهائيا في منطقة التل. فلن يخطر ببال الأهالي العرب المتواجدين آنذاك، ولن يكون في مقدورهم أن يطردوا المعمرين الفرنسيين الذين سوف ينتشرون في كل مكان ." على أن الفكرة المثيرة للاستغراب في الخطة التي وضعها هذا المتخرج من المدرسة المتعددة التقنيات، المتشبع بالعلوم الدقيقة، والذي كانت كلمته مسموعة لدى الضباط ورجال الإدارة الفرنسية، هذه الفكرة متمثلة في النتيجة التي توصل اليها:"ونحن كذلك في حاجة الى جماعة من الدراويش، ندفع لهم مكافآت شهرية (هكذا) ونوعز اليهم بالتكلم في مختلف المناسبات ويكون كلامهم دائما في مصلحتنا  " ان هذه التوصية قد كان لها أثر كبير في اتجاه السلطة الاستعمارية الى الاستعانة بطائفة من المرابطين ومن الطرقيين لخدمة أغراضها.

بلاغات الانتصار الكاذبة

ومن هذا القبيل أيضا – وان كان الأمر هنا يتعلق بأسباب وأهداف عسكرية، أن الميل الى تزييف الحقائق وتشويهها بالخرافات، وإظهار أبسط الأحداث بمظهر الانتصارات الباهرة، هذا الميل خلق نوعا من البطولة الزائفة شبيهة بما نسمعه ونراه اليوم. والمقصود هنا هو بلاغات الانتصار الصادرة عن الجيش الفرنسي. وقد استفحل الأمر حتى أصبح من الأمور المضحكة أحيانا والمبكية أحيانا أخرى. فهناك شهادات كثيرة صادرة عن الجيش الفرنسي نفسه، وأدلى بها ضباط كانوا متذمرين مما يسمعونه كل يوم من أباطيل وأكاذيب. يقول أحد هؤلاء:"إنه شيء مؤسف أن تصدر أمثال هذه التقارير العسكرية الباطلة. وستكون –اذا لم نتدارك الموضوع – سببا في الحاق العر والشنار لفرنسا. فكلما استولى الجيش على دكان، أو قام بمناوشة صغيرة مع العدو، أو خاض معركة (وبالأحرى شبه معركة)، أصبح كل ذلك موضوع حكايات مضخمة. فالأمر يبعث على الأسف. ولابد من الاقرار بالحقيقة التالية، وهي أن البلاغ العسكري استحال الى جهز من أجهزة الدعاية الاعلامية للجيش "ويضيف غيره متهكما:" لقد ضاعت منا الأخلاق والشيم وأصبحنا الى حدّ ما من ذوي الادعاء، اذ كثيرا ما سمعت عن طريق البلاغات، بانتصارات كبرى في معارك لا أعتقد أنها وقعت أبدا ." وعلى سبيل المثال، فالكولونيل فوري، المشهور بصراحته، كان يتهكم من رجال الحاشية الذين ضخموا مسألة الاستيلاء على الزمالة، لأن الدوق دومال، وهو أمير ملكي، قد شارك فيها. على أن هذا الموقف لم يمنعه من أن يكاتب أحد المتعصبين للأسرة المالكة، وهو المارشال دي كاستيلان، فيقول له:"ان هذه الرايات التي قامت حولها ضجة كبرى، استولينا عليها خيمة من الخيام، ولم تكفلنا ولو قطرة من الدم. ومن بين العشرين، أو الخمسة والعشرين ألفا من الأشخاص الذين حاولوا الهروب، قضينا على ثلاثة ألاف منهم تقريبا. وعلى العموم، فان زمالة (عبد القادر) ظلت على وجه التقريب كما كانت من قبل حيث العدد[1][52]." وذهب ضابط آخر، وهو الكولونيل دي مونتي، الى أبعد من هذا:"ما أشد سذاجة من يصدّق ما يدّعيه المختلفون للبلاغات الكاذبة، فيزعمون أنهم عظماء لأنهم احرقوا الغلة وسقوا الغنم وطاردوا واختطفوا السكان العزّل ."

وهكذا فإن معظم العمليات العسكرية كانت تجري على هذا المنوال، أي على شكل غارات واسعة النطاق. وكان الجنرال شانغارني يحاول تبريرها بالاستشهاد بالكتاب المقدس la Bible ويشوع* Josué. فهو الذي كتب يقول، مستعملا عبارات "محتشمة" بالمقارنة مع غيره من الغلاة. "بعدما انتهينا من تحطيم حكومة عبد القادر وتشتيت شمل جيوشه، انتقلنا الى تركيز هجومنا على الأموال المنقولة وعلى المحاصيل الزراعية من أجل إرغام القبائل على الخضوع  والحقيقة أن تخريب الأهداف المدنية بدأت منذ زمن بعيد رغم أن فرص المواجهة مع الجيش النظامي الجزائري كانت كثيرة. وقد سجّل شارنغارنيي في "مذكرات" بأن بعض المواقع الاستراتيجية، مثل مراكز التموين، والمستودعات العسكرية وعيون الماء "استلزمت من الجيش الفرنسي أن يخطط للحرب بنفس الطريقة التي كان يخطط بها في حروب أوربا ." ولكنه يرى بأن تلك الاستراتيجية كانت فاشلة، وأن الغارات الموجهة ضد المدنيين أشد وقعا من الحرب المتعارفة.

وهناك شهادات كثيرة في هذا الموضوع: فقد كتب أحد المراسلين للمارشال دي كاستيلان في 1843: "اننا في الواقع نحارب قطعان الغنم، والمستضعفين من السكان العزّل الواقعين تحت وطأة الجوع والشقاء ." واذا أردنا أن نقارن الماضي بالحاضر، ما علينا الا أن نقرأ شهادة غ.م. ماتيء في "الأيام القبائلية Jours Kabyles"، وشهادة جاك بوشو، في "عام في الأوراس Un an dans les Aurès ""وغير هؤلاء ممن ألهت قرائحهم حروب "اقرار السلام".

غير أن الأمر لم يقتصر على البلاغ العسكري المستعمل للدعاية الصحافية، بل كانت هناك مبادرات من الصحافة، وحتى من البرلمان، أثارت استياء السلطة وجعلت ممثليها يعممون الحكم ويتعسّفون في تطبيقه. وقد استهدفوا على الأخص وكالمعتاد، الصحافة الباريسية، فاتهموا باريس بالتحالف مع العدو ! حتى أن المارشال كان يظن في 1836 بأنه قادر على الاتيان بالدليل على هذا التحالف. ولذلك فهو لا يتحرّج في توجيه العبارات التالية لحكومة بلاده:"ان الحاج الصغير    أخذ في ترويج أنباء كاذبة خاطئة... وهناك ارتباط بين ما كتبه وما تكتبه بعض الصحف في باريس حول نفس الموضوع. والسبب في ذلك وجود علاقات بين زعماء حزب المريين Maures والحاج الصغير، وبين أنصارهم ومن اغتّر بدعايتهم في العاصمة الفرنسية. وسآتيكم بالدليل على هذا في باريس ." أما مجلس النواب، أو بالأحرى اللجان المتفرعة عنه، فانه لم يسلم هو أيضا من انتقاد كلوزيل، فكتب يقول في مراسلته الرسمية:"ان الشيء المؤسف هو أن نرى اللجان المتفرعة من مجلس النواب تنتهج بخصوص مشكلة افريقيا نفس الأسلوب الذي يقترحه أعداؤنا من الأهالي، لاخراجنا من البلاد   "ثم أضاف بشيء من الحذر:"وأنا لا أعتقد بطبيعة الحال أنه يوجد نوع من التواطؤ، ولكن التقارب بين الموقفين واضح ومؤلم[2]  ثم استخلص النتيجة التالية بطريقة جمعت بين الخلط والخبث: "والخلاصة أن العرب يتطلعون بكل صدق الى قيام حكومة، وهم على استعداد لقبول حكومتنا اذا كانت تحميهم وتعمل بجدّ ونشاط. غير أن العراقيل التي تحول دون قيام الجهاز الادراي وبسط النفوذ الاستعماري، آتية كلها من باريس. فهناك يوجد أعداؤنا الألداء، ولا نتخوف من أحد سواهم  



 

 

 

 

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية على الجزائر المحروسة /التجنيد الاجباري لاهالي /المؤلف صالح مختاري

التجنيد الاجباري للأهالي

وفي هذه الأثناء تقريبا، أي في شهر نوفمبر 1840 ، أراد فالي أن يسد الفراغ الذي تركته هذه الحرب الفتاكة وأن يسيطر سيطرة تامة على الشعب الجزائري، فعمد الى التجنيد الاجباري للأهالي، وشكل من هؤلاء فرقا شبيهة بما نسميه اليوم ‌"الحركية" واتخذهم رهائن. وكانت هذه الفكرة معمولا بها قبيل التوقيع على معاهدة تفنة، ولكن الأهالي لم يكونوا يعملون في الجيش الفرنسي الا كأعوان. ثم عندما استؤنفت الحرب برزت فكرة اتخاذهم رهائن بكيفية معممة. فمبادرة المارشال كلوزيل "لم تستهدف زيادة القوات الفرنسية عددا عن طريق التجنيد، بقدر ما استهدفت فتح المجال أمام قسم من السكان للانضمام الى صفوفنا لكي يتميزوا على غيرهم من السكان، كمثال تقتديه فئة من المسلمين موالية لفرنسا  " أما فالي الذي جعلته التجربة يعارض فكرة تجنيد فرق نظامية من الأهالي، يسبب فرار أفرادها على نطاق واسع، وكذلك بسبب ما يقدمونه من خبرة تقنية للجيش الوطني الجزائري، فانه كان يرى بأن يعمد في المناطق المحتلة، الى تجنيد فرق غير نظامية، لأن "كل أعمال القمع، وكل الاجراءات اللازمة لجباية الضرائب ينبغي أن يتولاها جنود من الأهالي، ومن أجل هذا الغرض سخرناهم " ولكن، هاهي ذي الحرب تتجدد. فالعملية التي كانت في البداية عملية ادارية استفزازية، تحولت الى عملية سياسية صرفة بهدف قهر السكان وتحميلهم مسؤولية جماعية.

ان صاحب فكرة اتخاذ الجزائريين رهائن من بين الرؤساء والأعيان، ومن ذوي الجاه، ومن بين العائلات الكبرى والطوائف المختلفة الخ...

هو المارشال سولتن وزير الحرب، الذي تولى نقلها مرتين – مع فاصل زمني بين المرة الأولى والثانية دام بضعة أشهر- الى الوالي العام فالي على شكل تعليمات، فما كان من فالي تلقى هذه التعليمات، فما كان من فالي الا أن استجاب في الأخير للفكرة. والحقيقة أن فالي تلقى هذه التعليمات مكرها، وعلى الأخص فيما يتعلق بتعميمها، الا أن هذا لم يمنعه من أن يطبقها على أوسع نطاق. فهو يقول في رسالة وجهها بتاريخ 30 نوفمبر 1840 الى الوزير "ان تشكيل فرق من الصبايحية spahis غير النظاميين وفّر لنا من هؤلاء عددا كبيرا من الرهائن. وعما قريب سوف نسخر لخدمة فرنسا في مقاطعة قسنطينة 1.500 فارسا... وسوف نتخذهم ضمانة لولاء الأهالي الآخرين، كما أن كتيبة التيرايور في قسنطينة وفرت لنا عددا كبيرا من الرهائن... وأصدرت أمرا الى بعض القبائل التي فرضنا عليها مدنا بالفرنسان، بأن تنتقل الى برج سطيف لكي تكون في حمايته. فهذه العائلات هي في الواقع رهائن بين أيدينا، وبهذه الكيفية تصبح العلاقات بين الشعبين أوثق وأمتن (هكذا)... واتبعنا نفس الأسلوب في مقاطعة الجزائر... ومن الرهائن أيضا رجال الدرك الأهليون الذين تقيم عائلتهم في الجزائر والبليدة والقليعة... وسوف تلاحظون يا سيادة المارشال أنني فضلا عن الاجراءات التي أشرت اليها، خولت نفسي حق أخذ الرهائن من جميع القبائل خاضعة لنا. وسوف أعمل على تطبيق هذا الأمر بشكل خاص عندما تعلن قبائل التيطري  و وهران انفصالها عن عبد القادر 

وبما أن جل العمل قد أنجز باتقان، من غير أن يستلزم الأمر اصدار "بيان عام الأهالي" أو "أمر الى الجمهور" ، وفق ما نصح به المرشال سولت من ضرورة ملازمة الحذر، فلم يبق بعد هذا الا أن تستغل الفرصة في جميع المجالات، وحتى على المستوى الرسمي. وهذا ما حصل بالفعل: ففي تقرير نهاية السنة (31 ديسمبر 1840) الذي وضعه فالي حول الوضعية العامة في الجزائر نجد هذا الأخير ينساق مع التيار، على غرار ما فعله من بعده لاكوست الذي كان دائما يضخم عدد الحركية في كل خطاب من خطبه، أو على غرار ما صرح به مؤخرا ؤئيس الجمهورية الفرنسية. وهكذا راح فالي يؤكد بأن "القضية الفرنسية تلاقي اليوم عددا متزايدا من الأنصار. فالفرق الأهلية المسخرة لخدمتنا متزايدة بشكل ملحوظ، وعدد أفرادها يكاد يبلغ في هذه السنة ضعف ما كان عليه، وولاؤها لنا يتأكد يوما بعد يوم وبهذا نلاحظ أن الاستعمار لم يغير اليوم شيئا من أساليبه، لامن حيث طريقة تجنيد الحركية ولا من حيث الشعارات الخاصة بهم. وكما كان الأمر بالأمس، فإن الجنود الجزائريين المدعوين اليوم لأداء "خدمة" العلم الفرنسي كأعوان، يعتبرون – هم وذووهم- من الرهائن في يد فرنسا.

حرب ضارية ابتداء من 1841

ان الحرب في عهد فالي، وان كان قد أعد لها كامل العتاد العسكري، الا أنها لم تبلغ ما بلغته من الضراوة ابتداء من فبراير 1841 تحت قيادة بيجو. على أن المؤلفين العسكريين مثل شالمان يعتبرون عام 1840 من الأعوان الحالكة في الحرب، علما بأن الخسائر الفرنسية التي ذكرها لا تشمل الا الضباط: ففي تلك السنة قتل منهم أربعة وأربعون.

وعلى العموم، فان معدل القتلى بلغ 17 في السنة، اعتمادا على الرقم الذي أعطاه هذا المؤلف، وهو 304 ضابطا ممن لقي مصرعه في الحرب بين 1830  و 1847   ولكن الشيء الذي سكت عنه هو أن نسبة الخسائر بين الجنود مرتفعة جدا الى درجة أنه عيب على بعض القادة العسكريين كونهم"جاءوا الى الجزائر ليتعلموا المهنة على حساب الجنود   وقيل عن الجنرال باراغي ديليي بأن "المشي المنهك الذي فرضه على جنوده جعل عددهم يتناقص من 5.000 الى 3.000 رجل . "ويستفاد من رواية شالمان لكلام توماس أن هذا الأخير قال عن بعض الضباط بأنهم "يطلبون الشهرة" بخوض معارك "متعمدة" وانهم تعلموا المهنة "بدفع ثمن باهظ من الخسائر في الأرواح . "والمهم في الموضوع أن هذه الخسائر وهذه الاختياجات العسكرية المتزايدة أرغمت المسؤولين الفرنسيين على تجنيد فرق غير نظامية من الرهائن، وجعلتهم يفكرون- وهي فكرة أخرى من أفكار المارشال سولت – في استخدام العبيد من السودان الشرقي، بعد شرائهم من أحد الزعماء اللبيين المنشقين... كما جعلتهم يفكرون في استخدام الاجئين الاسبان. ففي رسالة رسمية بتاريخ 2 نوفمبر 1840 يقول فالي بأنه أعطى الأوامر لكي تنقل الكتيبة الاسبانية الى الجزائر. وقد أضاف الأستاد غ. ايفر الذي تولى نشر هذه المراسلاتن أضاف الملاحظة التالية في حاشية الصحفة: "كتيبة تدربت في فرنسا، وهي تتشكل من الاسبان اللاجئين الى فرنسا بعد هزيمة الكاريين carlistes  ".

ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، اذ ما كادت هذه الكتيبة التي ألحقت باللفيف الأجنبي تحط الرحال حتى فر 44 من افراادها وانضموا الى الصف الجزائر   . وهناك تفاصيل أخرى حوا هذا الموضوع مستقاة من مذكرة صادرة عن القيادة العامة للجيش الفرنسي بتاريخ 1840. ومما جاء فيها: "ولكي أضع حدا لفرار الجنود المتكرر يوميا رأيت من الضروري أن أبعد عن مدينة الجزائر هذه الكتيبة الخامسة التي لو بقيت هنا، لما ترددت في الانضمام إلى الكتائب النظامية التابعة لعبد القادر، علما بأنه إنضم إليها من قبل حوالي المئة من الإسبان التابعين للفيف الأجنبي... وقد توجهت هذه الكتيبة إلى عنابة وأوصيت بتشديد المراقبة عليها، ويضم جيش المشاة التابع لعبد القادر أكثر من مئة من هؤلاء الاسبان، وسوف ينضم إليهم بكل تأكيد الخمسة والستون من الجنود الفارين مؤخرا، بعد ثلاثة أيام فقط من وصول الكتيبة الخامسة التابعة للفيف الأجنبي[ والحقيقة أن الفرار من الجندية كان يقع من قبل، وهذا ما يستفاد من تقارير أحد الضباط، وهو الكولونيل ديلينس d’Illens الذي أشار إلى حالات مماثلة سببها فيما يبدو، الدعاية المكتوبة "بعدة لغات التي قامت بها المصالح المختصة التابعة لجيش عبد القادر، وكان من نتائجها أن فر 25 من اللفيف الأجنبي خلال ثلاثة أشهر  ما أشبه اليوم بالبارحة !

إن الذين يتبعون الوضع العسكري السائد في الجزائر منذ ثلاث سنوات، لاشك إنهم لاحظوا وجود شبه كبير بين الحالة المذكورة أعلاه والحالة الراهنة. فمن المعروف إن بعض اللجئين المجريين (الهنغاريين) الذين أرغموا على الدخول في اللفيف الأجنبي، أخذوا منذ1957 يفرون من الجندية، وقد نشرت جريدة "المجاهد" تصريحاتهم. أما الصحافة الفرنسية، فقد خامرها الشك في صحة الخبر، ولازمت الصمت، إلى أن نشرت جريدة "لوموند" في عددها الصادر في 6 أكتوبر1960 خبرا أشارت فيه إلى ما قامت به الحكومة المؤقة للجمهورية الجزائرية والسلطات المغربية من تحرير11 جنديا من الفارين التابعين للفيف الأجنبي. ومما جاء في الخبر ما يلي:"ذكر أحد المجريين، إسمه لاجاس إيلاس، بأن كل سرية من سرايا اللفيف الأجنبي تضم 25 لاجئا مجريا، وأن معظمهم إلتحقوا بفرنسا بعد إنتفاضة بودابيست في 1956، وأنهم أرغموا على الدخول في اللفيف الأجنبي". ونستنتج من هذا أن اللاجئين الإسبان كانوا هم أيضا مرغمين على الدخول في اللفيف الأجنبي، على غرار اللاجئين المجريين اليوم، بدليل أنهم سارعوا إلى الفرار عن سبق تصميم، وبصورة جماعية.

ولكن الحرب مستمرة، وهذا الاستمرار أفضى من الناحية النفسية إلى نوعين على الأقل من ردود الفعل، بحسب ما إذا كان الأمر يتعلق بالمدنيين – وعلى الأخص اللبيراليين منهم – أو بالعسكريين والمدنيين من ذوي الأحقاد والضغائن. ففي الحالة الأولى نجد مواقف لا تزال مألوفة اليوم لدى بعض الديموقراطيين الفرنسيين بالجزائر، مع ما يرافقها من نفاق ورياء، وهذا ما أشار إليه كلوزيل في 1835 :"هناك فريق كبير من الأهالي وحتى من الأوروبيين الذين يشق عليهم أن نمضي في الحرب ضد عبد القادر ويريدون أن نتفاوض معه. فهذا الفريق له مصالحه الخاصة، ويقدمها على مصالح فرنسا التي لا يكثرت بها ". أما الموقف الثاني المتمثل في من يدعي بأن حرب الجزائر دخلت ربع الساعة الأخير (أي أنها على وشك الإنتهاء)، فنجد شواهد عليه في كل حين، بل حتى في الأوقات التي إشتدت فيها الحرب، في1841 و 1842 ، أي قبيل إنتهاء الحرب مع عبد القادر بخمس أو ست سنوات، وقد إتخذ فالي هذا الموقف في أول عهده بالحكم. ولكنه بعدما جرب الأمور أصبح غير متيقن مما يقول. أما الضباط المتجهون إتجاه بيجو، وهو من الشبان المتحمسين، فكانوا يؤيدون هذا الرأي بدون تحفظ. ويقول أحد هؤلاء: "من المؤكد أن عبد القادر سينهزم قريبا، وما بقي علينا إلا أن نضرب الضربة القاضية " ويقول آخر:"إن الأوضاع العسكرية في هذه البلاد تسير فيما يبدو نحو تسوية قريبة. فهناك ما يدعو إلى الإعتقاد بأن حكم عبد القادر سينهار إنهيار تاما  وندرك مما قاله ضابط آخر أقل سذاجة، بأن الدعوة إلى "التآخي" بين الفرنسيين والأهالي قديمة، إذ يقول في مراسلة له بتاريخ 1842: "ولو صدقنا ما تقوله الجرائد وكلمات الولاء لما بقي علينا إلا أن نتعانق، لأن الحرب في زعمها قد إنتهت ومع هذا كله، فقد كان لبعض هؤلاء رأي سديد في الحرب، بل وصلوا أحيانا إلى حد التنديد بالاقطاعية والظلم السافر والكذب والتعدي على حقوق الأهالي وغير ذلك من الأمور التي إستنكروها بعقل متحرر، في سلوك رفاقهم ورؤوسائهم. ولكن، بما أن التقتيل والتشريد هما القاعدة في كل غزو إستعماري، فإن هؤلاء الضباط الذين يشهد لهم التاريخ لا محالة بالشجاعة، لم يرفع منهم صوته لاستنكار الظلم إلا فئة قليلة جدا. فالحرب هي الحرب، وليس من موقف ترتضيه القيادة الفرنسية العليا تجاه الجزائريين والحكومة التي تمتلهم سوى رفض التفاوض وإرغام العدو على الاستسلام التام، أو على الأقل، إستعمال أسلوب المراغبة والنفاق، بالدخول في مساومات من أجل سلم ممزق يعرض بصورة منفردة على الرؤساء المحليين وعلى أشخاص ليس لهم وزن، وعلى بعض العائلات الخائنة.

وهنا أيضا نجد نوعا من التشابه بين الحاضر المتمثل في تصرفات الوالي العام روبير لاكوست وفي أحداث 13 مايو، وبين أحلام الماضي الباطلة، مما يدعو إلى الإعتقاد بأن الغلاة الفرنسيين المحدثين قد إتخذوا النماذج المعرفة من القرن الماضي لأنفسهم قدرة. فبينما يؤكد المارشال كلوزيل، الوالي العام للجزائر، بلهجة موتورة، وقبيل التوقيع على معاهدة التافنة بعام واحد : "عزم الحكومة على أن لا تقبل شيئا آخر غير إستسلام عبد القادر، لأنه لا يمكن التفاوض مع رجل لا يزيد في نظرنا عن كونه رئيس عصابة المتمردين  ، إذا بالمارشال يصرح فيما بعد، على إثر نقض تلك المعاهدة:"لقد إغتنمنا جميع الفرص للاعلان بأننا لن نتفاوض مع عبد القادر، ولكننا على إستعداد لاستقبال الرؤساء والأهالي المنشقين عنه والراغبين في التفاهم معنا على انفراد وهكذا نلاحظ بأن الذين كانوا في أواخر 1958 ينادون بضرورة التوصل إلى "وقف اطلاق النار محليا' و'هدنة عن طريق التقسيم التربيعي quadrillage لا عن طريق المفاوضة" هؤلاء لم يأتوا بجديد منذ عهد فالي !

"سلم الشجعان"

ان هذا التشابه بين الحاضر والماضي يبدو على أوضع صورة عندما ننتقل الى المارشال الثالث، المارشال بيجو الذي يعتبر لعدة أسباب أمام الجيل الجديد من المستعمرين الغلاة، بل أمام بعض المسؤولين المحنكين. فهو الذي ابتداع الصيغة الأولى لما يسمى اليوم "سلم الشجعان" la paix des braves . والحكاية، وان كانت طويلة، الا أنها تستحق أن تروى لأنها، فضلا عن أهمية موضوعها، تلقى الأضواء على بعض الأساليب الدنيئة المتعجرفة التي كانت تستعمل مع المسؤولين الجزائريين في موقف الدفاع عن حقهم المشروع وكرامة بلادهم.

إن الأحداث التي تهمنا في هذا المقام وقعت في 1843. وكان المارشال قد عهد إلى صديقه الحميم، كبير التراجمة في مكتب الشؤون العربية، ليون روش Léon Roches، بمهمة اقناع الأمير عبد القادر بالاستسلام لفرنسا، هو وجيشه، "وشرفه سالم". وكان ليون روش قد لازم الأمير طيلة المدة التي طبقت فيها معاهدة التافنة وكان يتمتع بثقة لا تعادلها ثقة، وبتقدير الأمير ومودته. وعندما عيّنه بيجو – اعتبارا للأسباب السابقة – لكي يؤدي هذه المهمة، انقلب على شخص متجرد من كل حياء، فكتب اليه هذه الرسالة التي تعد آية في الوقاحة والنذالة:

"لله في خلقه شؤون، فهو يسلط شعبا على شعب آخر، وينتزع  بلدا ليعطيه لمن يشاء من عباده. وقد كانت افريقيا ملكا لأجدادنا ( ) إلى أن طردهم منها الأتراك. (هكذا) وشاءت عناية الله أن نعود اليها من جديد بعد أن خرجنا منها قرونا عديدة. فما عليك الآن أن تذعن لمشيئة الله  ."

وبعد هذه المقدمة واصل ليون روش كلامه: "لننتقل الآن إلى موضوع هذه الرسالة. لقد قلت لي بأنك ستقبل أي عرض لا يكون فيه مساس بالدين. وعهدي بك أذكى من ان يكون قصدك هو توقيع معاهدة معنا أو التوصل إلى حل سلمي، لأننا لو فعلنا ذلك لكنا مجانين. ولعلك قصدت أنك لن ترفض تسوية تضع حدا للقتال بطريقة تصون كرامتك وكرامة ذويك، ولا تتعارض مع معتقداتك ودينك. فلتعلم إذن أن المارشال قد تفضل بمراعاة الإلتماس الذي تقدمت به إليه، لكي يضمن لخصمه المغلوب عاقبة محترمة... أما الذين لا يرافقونك (الى مكة) من أفراد جيشك فسنعطيهم الأمان وسيعود كل واحد منهم إلى عشيرته... وأعتقد أنك لن تجد في سجل التاريخ مثل هذه المعاملة الكريمة من طرف عدو منتصر، كما أنك لن تجد من يضمن لك مثل هذه النهاية الشريفة لعدو مغلوب. ومما يتأسف له المارشال أن يراك – بعد ما كافحت كفاحا يليق بمقامك كأمير في سبيل دينك ووطنك – قد نزلت إلى هذا المستوى الوضيع وانقلبت إلى رئيس عصابة: تقطع الطرق وتقتل وتنهب أملاك القبائل الضعيفة البريئة لكي نعيش أنت وعصابتك 

هذه الرسالة فيها تزوير مقصود للحقائق من طرف ليون روش، وفيها أيضا تذرع لحجج معروفة وباطلة بهدف الفت من عضد الخصم. وقد برهنت الأيام عن بطلان هذه الادعاءات عندما انتصر جيش الأمير مرتين انتصارا باهرا على الفرنسيين. وقد اعتبر على أنها من أشنع الهزائم التي مني بها الجيش الفرنسي من الناحية الاستراتيجية.

ولنعد بعد هذا إلى مناورات ليون روش، فنجد أن ديدفيل (صاحب ترجمة حياة بيجو) قد تملكه الاعجاب بما لاحظه من "أنفة في جواب عبد القادر الذي ظل يطالب بتطبيق معاهدة التافنة، أو بتجديدها[21]" بينما كانت الحكومات الفرنسية المتعاقبة لا تريد منه سوى الاستسلام، وهو وجيشه. وما علينا إلا أن نقارن بين جواب الأمير الأبي، وكلام ليون روش الوقح: "لو أن الرسالة الأولى التي بعثناها إليك وصلتك، لأدركت ما هو في وسعنا أن نعمله، وما هو فرق طاقتنا. ولكنك صديقنا ولا بأس أن نعيد ما سبق أن قلناه لك... فلتعلم أن العروض التي قدمتها، وأكدت أن المارشال بيجو سيصادق عليها، ليست معقولة في شيء. كيف سولت لك نفسك – وأنا أعتبرك كولدي – وكيف تدعّي بأن مسعاك صادر عن محبة خاصة، وكيف خطر ببالك بأنني سأقبل بكل إمتنان حلا أستطيع بما لدّي من إمكانيات أن أتوصل إليه؟ وأراك تتنبأ لي بنفس المصير الذي وقع لأخي وصديقي سيدى محمح بن علال  فلتعلم بأنني لا أخشى أن يكون لي نفس المصير، بل أطلب هذا من الله عاجلا أو آجلا، لي  ولجميع المسلمين ! ... والآن أقول لك يا صديقي: اذا كان المرشال في نيته أن يبلغني ما فيه منفعة الجميع، فليبعث إلي أحد أعوانه مع رسالة إعتماد، وليخبرني بذلك سرا، وعندئد سوف أنتدب أنا أيضا أحد أصدقائي سرا، وليكن مثلا هو أخونا بوحميدي ، لكي يلتقي مع مبعوثه... ولا شك أنهما سيتفاهمان حول شروط الاتفاقية... وبذلك نجدد التحالف الذي ستكون أسسه خير ضمانة لدوام الصداقة والوئام ".

ان هذا الترجمان الذي كان من المقربين لدى بيجو، وعين فيما بعد أمينا للمندوبية في طنجة وقتصلا عاما في تونس، واشتغل هنا وهناك بمناورات خسيسة، أبى إلا أن يجدد مرّة أخرى ولكن بأسلوب مهذب، نفس العرض السابق لعبد القادر الذي كشفت رسالته عما يتصف به من "سمو النفس ورزانة في العقل" حسبما قال عنه ديدفيل ... وهكذا ماتب الأمير من جديد، ولكن الأمير لم يرد عليه:"ان الملك، ومجلس النواب والوزاراء والأمة الفرنسية، كل هؤلاء يريدون الاحتفاظ بالأرض التي فتحناها... فلم يبق لك إلا طريق واحد للنجاة أنت ومن معك. تعال بقرب المارشال وسل نفسك لمشيئته وكرم نفسه، فلن تجد عنده سواه مثلما سوف تجد عنده من حسن الاستقبال، وعظيم الاعتبار... وليس في هذا المسعى من غضاضة لك، وما عليك إلا أن تذعن لمشيئة الله تعالى ".

الطوابير الجهنمية

ونتيجة كل هذه المناورات معروفة: فقد عملت "الطوابير الجهنمية" التابعة لبيجو (هكذا يسميها العسكريون والمؤرخون)، عملت على تمديد الحرب بمدة تزيد عن أربع سنوات، فأسلمت البلاد للتقتيل والتدمير كما لو أن السنوات الثلاث عشرة من الحرب المتواصلة لا تكفي. وهنا يدخل الغزو الاستعماري مرحلته الرهيبة التي شهدت عددا من مجرمي الحرب ومن المنظّرين لسياسة الابادة وتجميع الأهالي، وهم: بيليسي، ومونتانياك، وسانت أرنو، وريشار. ومن الجدير بالذكر أن الأسماء الثلاثة الأولى، وكذلك أسماء غير هؤلاء مثل يوسف، وتروميلي الخ... قد أعطيت رسميا لعدد من القرى الجزائرية الهامة كأنها سبّة للضمير الأخلاقي. ومن يدري، فلعل مدنا أخرى ستحمل – لا قدر الله – أسماء ماسو، وبيجار، ودوكاس، وترينكيي، وشاربوني وغيرهم من سفاكي الدماء ومعذبي الشعوب. ولكن لنعد الى "ثالرواد الأوائل".

فهذا بيليسيي الذي صار مارشالا، نال "الشهرة" عام 1845 عندما تولى احراق الأهالي بدون شفقة ولا رحمة في مغارات الظهرة، حتى مات منهم حوالي الألف. وفي 1852 عند الاستلاء على مدينة الأغواط أطلق العنان لجيشه لكي يعمل ما يشاء في سكان هذه الواحة الصغيرة، فقتلوا منهم 2300 ما بين الرجال والنساء والأطفال 

وأما مونتانياك فهو أكثر الضباط الشبان حقدا على الأهالي، وهو الذي أعطى للنخبة من جيشه اسما رهيبا هو: "جوّالة الموت" فلنستمع اليه يقول في رسالة له الى أحد أصدقائه: "أراك تسألني ماذا نفعل بالنساء الواقعات يأيدينا. اننا نحتفظ بالبعض منهن رهائن، ونبادل بالبعض الآخر منهن للحصول على الخيل. والبقية للبيع بالمزايدة مثل الدواب لأفراد الجيش... ومن هؤلاء النسوة من هن على غاية الجمال.

ومن الأطفال من له جما ل ساحر. فهؤلاء المساكين الصغار يستحقون العناية. وفي العمليات العسكرية التي نخوضها منذ أربعة أشهر مشاهد يرقّ لها الصخر الأصمّ، لو كان للانسان وقت يفسح فيه المجال للعواطف. والحقيقة أننا صرنا ننظر الى كل هذا بدون مبالاة، وهذا أمر لا ترتاح له النفس ثم يضيف مستخلصا النتيجة:"هكذا يا صديقي العزيز ينبغي أن نحارب العرب. ينبغي أن نقتل كل الرجال ابتداء من سن الخامسة عشرة، وأن نأخذ جميع النساء والأطفال وأن  نضعهم في السفن ونبعث بهم الى جزر الماركيز أو غيرها. وبكلمة مختصرة، ينبغي أن نقضي على كل من لا يركع أمامنا كالكلب  وإذا سألت عن سانت آرنو، فهو أيضا صار مارشالا بعد الانقلاب الذي دبره في 2 ديسمبر لصالح الأمير – الرئيس (نابليون الثالث). وقد حذا حذو بيليسي في سد المنافذ على الأهالي في المغارات واحراقهم، ولكنه عمل في هذا المجال بمنتهى التكتم بناء على نصائح بيجو  ولع "رسائل Lettres" مليئة بمشاهد تقشعر لها البدان، عن قرى محترقة وآذان مقطوعة، وغير ذلك من الأمور التي كان يجد متعة مرضية في ذكرها ووصفها بدون حياء.

 

Voir les commentaires

كتاب الحروب السرية على الجزائر المحروسة /نجم شمال افريقيا وقضية اعتداء اليهود على المقدسات الجزائرية /المؤلف

نجم شمال إفريقيا وقضية اعتداء اليهود
على المقدسات الجزائرية

 

في جو سادته الأفكار الثورية بعد الحرب العالمية الأولى من الثورة البولشفية السوفياتية التي أطاحت بالعهد القيصري، ومبادئ ويلسون المنادية بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ثم الفكر النضالي الجديد الذي بدأ يظهر على الساحة العالمية، فمن ثورة تركيا إلى حرب الريف بالمغرب وإنتهاء بإحتلال سوريا. في هذا الجو المشحون بالثورات ولد نجم شمال إفريقيا، ويعد أول حزب جزائري يدخل المعترك السياسي في ضل الاحتلال من سنة 1926 إلى 1937،  وفي ظروف صعبة لقيادة المعركة السياسية من أجل إستقلال الجزائر، أنشئ على يد العمال المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا بتأثير ومساندة الحزب الشيوعي الفرنسي في يوم الأحد 20 جوان 1926م بباريس، بمبادرة من رئيسه الحاج علي عبد القادر ومساعدة الكاتب العام مصالي الحاج وأمين المال شابليلة الجيلالي والأعضاء الجيلاني محمد السعيد وأكلي بانون ومعروف محمد. ولعب الدور الكبير فيه مصالي الحاج، الذي دخل المدرسة الفرنسية وتعلم بها قليلا، جند في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى، وعمل بفرنسا في مصنع رونو ثم بائعا متجولا، إنخرط في بداية نضاله السياسي في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي وتزوج من فرنسية شيوعية، وكان من أهداف الحزب الكفاح من أجل الإستقلال الكامل للدول الثلاثة، الجزائر وتونس والمغرب ووحدة شمال إفريقيا والدفاع على شعوب هذه الدول والتنديد بالمظالم التي تعاني منها والمطالبة بحقوقهم، وفتحت باب الإنخراط في صفوفها لجميع مسلمي شمال إفريقيا المقيمين بفرنسا، وعملت في أوساط الطبقة الشغيلة مع مختلف المنظمات العمالية الفرنسية المناهضة للامبريالية، فكانت في البداية لا تمثل إلا الجالية المهاجرة، ولم تتوغل وتفرض برنامجها السياسي في الساحة الجزائرية إلا إبتداء من الثلاثينيات.

كانت مطالب الحزب، إلغاء قانون الإندجينا والبلديات المختلطة والمناطق العسكرية، حق الإنتخاب والترشيح في جميع المجالس ومن بينها البرلمان الفرنسي بنفس الحق الذي يتمتع به المواطن الفرنسي، إلغاء جميع القوانين الإستثنائية والمحاكم الزجرية والمراقبة الإدارية، وذلك بالرجوع للقوانين العامة، المساواة في التجنيد بين الجزائريين والفرنسيين، والمساواة في الإلتحاق بالوظائف العليا المدنية والعسكرية بدون تمييز مع الكفاءة، التطبيق التام لقانون التعليم الإجباري مع حرية التعليم لجميع الأهالي وإجبارية تعليم اللغة العربية، حرية الصحافة وإنشاء الجمعيات وإحترام الحقوق السياسية والنقابة، تطبيق قانون فصل الدين عن الحكومة فيما يخص الدين الإسلامي، تطبيق القوانين الإجتماعية والعمالية على الأهالي، حرية التنقل إلى فرنسا من غير قيود، تطبيق قوانين العفو العام على الأهالي المسجونين سياسيا.

ولأجل الدفاع عن هذه المطالب أصدرت حركة نجم الشمال الإفريقي بفرنسا جريدة الإقدام الباريسي ثم جريدة إقدام شمال إفريقيا، وكلاهما لم يعمر طويلا. وفي شهر فبراير من عام 1927  عقد مؤتمر بروكسل المناهض للإستعمار وحضره ممثلان عن حركة الشمال الإفريقي مصالي الحاج من الجزائر والشاذلي خير الله من تونس، إلى جانب شخصيات أخرى أمثال نهرو من الهند وسوكارنو من أندونيسيا وهوشي منه عن الفيتنام، وعدّة منظمات عمالية تمثل القارات الخمسة، وقدم مصالي الحاج المطالب الجزائرية المتمثلة في استقلال الجزائر، جلاء قوات الإحتلال الفرنسية، تأسيس جيش وطني، وحكومة جزائرية، حجز الأملاك الفلاحية الكبيرة التي إستولى عليها المعمرون وإرجاعها إلى الفلاحين الذين سلبت منهم، إحترام الأملاك الصغيرة والمتوسطة، إرجاع الأراضي والغابات التي إستولت عليها الحكومة الفرنسية إلى الحكومة الجزائرية.

إلى جانب هذه اللائحة من المطالب، طالب بإجراءات فورية منها إلغاء قانون الإندجينا والقوانين الإستثنائية وإعطاء الحقوق السياسية والمدنية للجزائريين، وإطلاق سراح المسجونين السياسيين وحرية الصحافة والجمعيات والإجتماعية.

وفي سنة 1930 م بمناسبة مرور قرن على إحتلال الجزائر نظمت فرنسا إحتفالات كبيرة صرفت فيها أموالا باهظة، وفي هذه الأثناء بعث مصالي الحاج بمذكرة إلى الأمين العام لعصبة الأمم المتحدة يحثه فيها عن ظروف الإحتلال والمظالم التي يعيشها الشعب الجزائري، كما أصدر النجم شهر أكتوبر  من نفس السنة العدد الأول من جريدة الأمة بباريس، وكان مديرها ومؤسسها مصالي الحاج، وتوقفت عن الصدور في أوائل الحرب العالمية الثانية، وفي يوم 28 ماي 1933م انعقد مؤتمر نجم الشمال الإفريقي وحدد فيه برنامجه السياسي والقوانين الداخلية والمطالب المستعجلة التي صودق عليها بالإجماع، ولسبب حل الحزب أسس أعضاؤه عام 1934م نجم الشمال الإفريقي المجيد، كبديل للنجم المنحل ولكن في نفس السنة كسرت المحكمة حكم حل النجم، لأنه لم ينفذ في الوقت القانوني. وهكذا أعيد النجم الشمال الإفريقي الأول، وفي نفس السنة اعتقل مصالي الحاج رفقة عميماش وراجف وحكم على الأول بستة أشهر وعلى الثاني بأربعة وعلى الثالث بثلاثة أشهر وخمسة آلاف فرنك فرنسي غرامة للثلاث. وإثر حوادث قسنطينة التي وقعت بين المسلمين الجزائريين واليهود في 3 أوت 1934 جراء إعتداء يهود قسنطينة على المساجد ومسلميها  وإطلاق الرصاص عليهم، وحمايتهم من الشرطة الفرنسية، بعث نجم شمال إفريقيا وفدا بقيادة محامي للدفاع عن الجزائريين الذين تصدوا لهم، كما وقف النجم إلى جانب إخوانه التونسيين الذين نفاهم الإستعمار الفرنسي إلى الصحراء، وبعث وفدا إلى البرلمان للتدخل لتحرير القادة التونسيين، وفي فبراير 1935 م أسس الإتحاد الوطني لمسلمي شمال إفريقيا كخلف لنجم الشمال الإفريقي، الذي حلته الحكومة ثانية. أمّا على الصعيد العالمي فقد دافع النجم على قضية إحتلال الحبشة من طرف إيطاليا وبعث بوفد إلى عصبة الأمم يستنكر فيه هذا العمل الشنيع، كما شارك في مؤتمر مسلمي أوروبا الذي انعقد بجنيف تحت رئاسة الأمير شكيب أرسلان، ولعب هذا الأخير دورا كبيرا في تغيير فكره السياسي من الشيوعية إلى الأفكار القومية العربية الإسلامية، ووقف مع القضية الفلسطينية أثناء احتلال هذه الأخيرة سنة 1948  من طرف الصهاينة اليهود. واستفاد مصالي الحاج ورفقاؤه من العفو العام عن السياسيين الذي أصدرته الجبهة الشعبية عند فوزها بالإنتخابات التشريعية ودخل مصالي من جنيف، وعند عودته إلى الجزائر ألقى مصالي الحاج يوم 02 أوت 1936 م خطابا أمام حشد كبير من المواطنين بالمعلب البلدي للجزائر، حثهم على النضال وندد ببرنامج بلوم فيلويت وقرارات المؤتمر الإسلامي المطالبة بسياسة الإندماج وإلحاق الجزائر بفرنسا، وقام من بعدها بجولات في العديد من المدن الجزائرية ألقى خلالها عددا من الخطب موضحا فيها البرنامج السياسي للنجم، أكسبته العديد من الأنصار سمحت له بفتح فروع كثيرة عبر التراب الوطني. وفي عام 1936 م عرفت الجزائر إحتجاجات كبيرة قادتها الطبقة الشغيلة الجزائرية، وبدأ المواطنون يعون حقوقهم و يشاركون في المظاهرات السياسية، وبينما كانت الحرب الأهلية مشتعلة في إسبانيا سنة 1936 م طلب الحزب الشيوعي الفرنسي من نجم الشمال الإفريقي أن يبعث بمناضليه ليحاربوا في صف الجمهوريين، وكانت الحكومة الفرنسية تؤيدهم، فطالب النجم من الحكومة الجمهورية أن تصرح باستقلال الريف كشرط أساسي للكفاح معهم، فسبب له هذا الموقف قرارا أصدرته حكومة الجبهة الشعبية حل بموجبه نجم شمال إفريقيا  في يوم 26 جانفي 1969م، ولكن زعماءه واصلوا النضال باسم أحباب الأمة، وفي إجتماع بباريس يوم 11 مارس 1938 أعلن أعضاء أحباب الأمة تأسيس حزب الشعب الجزائري.

Voir les commentaires

<< < 1 2 3 > >>