بعد ذلك ارتكب فوشيه سلسلة من الأخطاء التي لا نجد لها تبريرا، إلا إذا اعتقدنا بأنه بدأ يعمل لحسابه أو أنه بدأ يتحول عن نابليون و يعتقد بأن مصلحة فرنسا تقتضي تغييره، و لكن هذه الأخطاء أبعدته عن منصبه للمرة الثانية. لعله بالغ بالثقة بنفسه إذ استنفر الحرس الوطني ثانية، لرد هجوم لا وجود له هذه المرة. و أتبع ذلك بعمل سياسي يتسم بالتربص و الخيانة. اتصل فوشيه بجوزفين و نصحها بوقاحة بأن تسهل من جانبها عملية الطلاق من نابليون. وبخه نابليون على ذلك و الذي كان لا يملك من الشجاعة ما يدفعه إلى تقديم مثل هذا الاقتراح. ثم وقع فوشيه في خطأ آخر أكثر أهمية حين قرر أن يقوم بدور السياسي و أن يعقد صلحا مع إنجلترا. و لم يكن ذلك بدون علم الإمبراطور و حسب، بل استخدم اسمه في المفاوضات أيضا. هذه المرة أغفل فوشيه أن يتخذ الاحتياطات الكافية، فاجأه نابليون الغاضب متلبسا بجرم الازدواجية و الخيانة. و في الثالث من جويلي1810، عزل فوشيه و عين "سافاري" الجنرال المتبلد الشعور محله في منصب وزير الشرطة.
كيف يمكن تفسير تصرفات فوشيه و اتصالاته بالإنجليز ؟ خيانة طبعا لا. و لكنه سأم من سياسات المغامرة و إيمان بضرورة عودة الاستقرار إلى فرنسا، رغم سيده و لو باسمه إذا لزم الأمر. إنه آمر الشرطة و المخابرات و الأمن الذي يصبح سياسيا رغما عنه و يكتشف أن الأمن الحقيقي هو الاستقرار و دون ديكتاتورية الإمبراطور.
تأسف على سقوط فوشيه الكثير من كانوا قد استفادوا من معاملته اللبقة و أسلوبه الراقي المتطور في التعامل مع الناس، حتى الأعداء. لكن نابليون الذي كان يعرف شعبية فوشيه، و لعلها تعود إلى تطور آرائه السياسية حول علاقات فرنسا الخارجية و السياسة الداخلية، عينه حاكما على روما، و لكن "سافاري" أبلغ الإمبراطور أن سلفه أحرق ملفات سرية قبل انتقاله إلى روما. ثارت ثائرة نابليون و طلب إعادة ما تبقى من مراسلات سرية و مواد أخرى حيوية. و نزل فوشيه عند طلب الإمبراطور لكسب الوقت قبل أن يفر إلى إيطاليا، بعد حين سمح لفوشيه بأن يعود إلى فرنسا، ليواجه فقد زوجته التي توفيت سنة 1812. صحيح أن فوشيه كان آنذاك عظيم الثراء، لكنه لم يكن أمامه سوى حياة فارغة ما لم تسعفه الأحداث و هو رجل تعود أن تكون السلطة مهنته و لعبته و هوايته. و في أواخر أكتوبر، حين كان نابليون يتراجع مهزوما من موسكو وقع في باريس ما أسعفه بالفعل.
سرعان ما تجلى في ظل قيادة سافاري لأجهزة الأمن و الشرطة أن القسوة و العنف و التعذيب بديل سيئ للرقابة و اليقظة. و لما فر الجنرال "ماليه" المتآمر اللدود الدائم لنابليون، من السجن، كان سافاري على جهل تام بتحركاته و نواياه. و الواقع أن مخطط "ماليه" كان البساطة بعينها. أعلن أن نابليون قتل في روسيا و أن حكومة مؤقتة تسلمت السلطة. ثم أعلن عن اعتقال سافاري لكنه عجز عن التحرك بسرعة، فانهارت المحاولة الانقلابية. و أصيب نابليون بالذعر التام إزاء إمكانية نجاح مثل هذه المحاولة و ما لاقته من دعم واسع بناء على مجرد إشاعة. و الأسوأ من ذلك أن شرطة سافاري عجزوا عن سحق المؤامرة في مراحلها الأولى. مثل هذا العجز غير مقبول و غير مسموح به أبدا. سر فوشيه إزاء ارتباك سافاري، ثم شعر بمزيد من الارتياح حين استدعاه نابليون إلى"درسدن" لاستشارته، إذ ان هذه الخطوة كانت أبلغ دليل على اعتراف الإمبراطور بخطئه.
آنذاك كان فوشيه في أوساط عقده السادس. كان لا يزال رقيق الجسم، ناحلا كعادته، لكن قواه كانت قد أخذت بالوهن، كأنها بذلك تواكب وهن الإمبراطورية بالذات. و على غير عادته اتبع أسلوبا سياسيا متأنيا في شباك و دهاليز السياسية الإيطالية حينذاك أضاع بسببه أربعة أشهر في محاولة التأثير على الفئات العديدة في إيطاليا قبل العودة إلى باريس التي وصلها متأخرا … إذ أن لويس الثامن عسر كان قد تسلم العرش و جلس إلى جانبه تاليران. وعبر فوشيه عن حكمة حين رفض منصبا في الحكومة الجديدة، قائلا عن البوربون أنهم لم يبقوا في الحكم أكثر من سنة. كان في الواقع مؤيدا للسلام، معارضا لعودة نابليون، لكن قصر نظر الكثيرين من المهاجرين العائدين أقنعه بأن النظام الملكي سيكون قصير العهد. و لم يأت نبأ عودة الإمبراطور و زحفه الظافر مفاجأة له. و في اللحظة الأخيرة قررت السلطات البوربونية اعتقال فوشيه، لكنه تمكن من الفرار بمغامرة الهبوط على السلم عبر جدار في حديقة "هورتنس" الخلفية، و هي ربيبة نابليون و نسيبته أيضا. و عند وصول الإمبراطور السابق، عين فوشيه وزيرا من جديد.
و بين الوزراء الذين عملوا أثناء فترة الأيام المائة، و هي الفترة ما بين عودة نابليون و نفيه من جديد بعد معركة "واترلو"، كان فوشيه أقدرهم و أكثرهم كفاءة و كان يعتبر الصلة المجدية الوحيدة بين نابليون و الملكيين. و على هذا الأساس دخل في مفاوضات سرية مع "مترنيخ" من خلف ظهر الإمبراطور، غير أنه كان هذه المرة على أتم الاستعداد حين صرخ به الإمبراطور : " أنت خائن !كان يجب علي أن أعلقك على حبل المشنقة".
فقد رد عليه فوشيه : " سيدي، إنني لا أشاطر جلالتك هذا الرأي". و كشف له معرفته بأن نابليون نصب له فخا في فندق "دراي كونيغ" في "بال" حيث كان مقررا أن يتم الاجتماع بمندوب "مترنيخ" الديبلوماسي. و واصل الإمبراطور صراخه مدة ساعة لكنه كان لابد له من الاعتراف بهزيمته في النهاية. و جاءت هذه المناوشة مقدمة بسيطة لهزيمته الساحقة في "واترلو".
هنا رأى فوشيه ضرورة استقالة نابليون. و باعتباره الرئيس المؤقت للحكومة كان في وضع يمكنه من إرغام الإمبراطور على مغادرة باريس و أن يفسح المجال ثانية أمام لويس الثامن عشر.
كان الملك يكره من صوت لإعدام شقيقه و كان صوته هو الذي رجح إعدام الملك لويس السادس عشر. لكنه عين فوشيه وزيرا للشرطة للمرة الرابعة. و يروى أن لويس الثامن عشر قال في نفسه :" يا أخي المسكين، لو أنك رأيتني لسامحتني !"
فعودة الملكية – المؤقتة - إلى فرنسا كانت تقتضي مصالحة واسعة. و إذا كان الملك أكرم فوشيه في وقت لاحق بحضور حفل زواجه من فتاة جميلة تصغره بنحو ثلاثين سنة، فإنه كان واضحا أن وزير الشرطة قد استنفذ نفعه للبوربون بعد أن رسخوا سلطتهم. و قد ظلت دوق "دانغوليم " ذات إرادة قوية و شخصية عنيفة، و هي ابنة الملك المعدوم لويس السادس عشر و الملكة المعدومة "ماري أنطوانيت" هي " الرجل الوحيد في العائلة"، كما قال عنها نابليون، تكره هذا الرجل الذي أسهم في إعدام والديها و حملت لويس الثامن عشر على عزله من الخدمة و إبعاده إلى حيث قضى بقية حياته فيما يشبه المنفى.
قضى فوشيه السنوات الخمس الأخيرة من حياته في التنقل بين "براغ" و "ميونيخ" و "لينز" و هو يتوسل كل مرة "مترنيخ" المتعجرف أن يمنحه حق اللجوء. و لم يكن وزير الشرطة السابق بحاجة إلى مخبرين لاكتشاف انغماس زوجته في علاقات عاطفية مع رجل آخر. لقد كان الجواب مرسوما في عيون أولئك الذين كان لا يزال يتصل بهم و في شفاههم. ترى، ما هو شعور هذا الرجل الذي تعود رقابة الناس و تسجيل عيوبهم حين يكتشف أن زوجته الشابة تخونه ؟ هل هو عقاب العدالة و الأقدار؟ !
و أخيرا وجد العزاء و سلوى في "تريستا" حيث أبدى "جيروم" و" ليزا بونابرت" عطفا كبيرا عليه و هو الذي سبق له أن قدم لهما خدمات كثيرة في الماضي. و كانت نهايته في 20 جانفي سنة 1820. أخيرا وجد هذا الراهب السابق، و الإرهابي، اليعقوبي، و الملحد، و الجمهوري، و الثوري، و المناصر للملكية حينا من الزمن، سلاما مع الكنيسة، التي رضيت بدفنه في أحد قبورها.
إن معرفة النقطة الرئيسية في سيرة هذا الرجل الذي عرف انتهاز الظروف أمر صعب حقا. و إذا ما استطاع المرء أن يتناسى بداية سيرة فوشيه الرهيبة في مدينة "ليون" و المجلس الوطني، تسنى له أنم يجد انسجاما أكيدا في أعماله اللاحقة و قد كانت في الأساس أعمال ديمقراطية مستنيرة في القرن الثامن عشر، مؤمن بمجتمع مستقر قد استتب أمنه و قادر على أن يضمن الراحة و السعادة للمواطنين.
و لابد لكل تقدم حقيقي من أن يستند إلى السلام و الحكم الذكي، و لتأمين هذين الهدفين خصص فوشيه، و هو في مركز قوة، كل جهوده و نشاطه. ليست للدولة البوليسية عند فوشيه مضامين إرهابية كالتي تحملها هذه الدولة في عصرنا الحالي. و لعل الإرهاب الذي مارسه أول حياته علمه أنه لا يفيد و أنه مضيعة للوقت و للإنسان. و لعل هذا الرجل الذي درس الآداب الكلاسيكية في شبابه عرف من رجال الرهبانية التي درس على أيديهم في نشأته أن السياسة كانت تعني عند الإغريق " إدارة حكومية" بالمعني الإيجابي لا القمعي.
و لو أن نابليون أصغى لوزير شرطته البارع و أخذ برأيه في وقف المغامرات الخارجية و تحقيق أوسع المصالحات الداخلية لكان من المحتمل ألا ينهي بقية حياته في منفاه التعس في جزيرة "سانت هيلانة"