الجاسوس وولتر سباور
كان سباور يحتقر البيروقراطية و الانتظام و يمثل الذكاء الأمريكي و الثقة بالنفس و المبادرة، و كان يعتمد تماما على نفسه، فقد توصل، و هو لم يناهز الثلاثين، في مختبره الصغير إلى اختراع ما احتاجته الولايات المتحدة بشدة و ما لم يكن في مقدور الاتحاد السوفياتي صنعه، و هو أحد أفضل أجهزة الليزر بالمرآة، في العالم.
إنه جهاز ليزر يصدر طاقة عبر حزمة أشعة ضيقة تستخدم لإجراء عمليات جراحية دقيقة أو للسيطرة على الإنسان الآلي، و لأهداف عدة أخرى مفيدة للبشرية. كما أن حزم الليزر يمكن أن تقود القنابل بدقة فائقة و قد تصبح قادرة في المستقبل على تدمير الصواريخ خلال تحليقها، و من بين كل التقنيات المعروفة، تعتبر التقنية المتعلقة بالليزر هي الأهم بالنسبة للأمن القومي الأمريكي.
و لأن أجهزة الليزر، ذات الطاقة العالية، كبيرة الحجم، يجب أن يتم انعكاس حزمة الأشعة عبر مرآة توجه بسهولة و دقة. و ما لم تكن المرآة ملساء بشكل كامل، فإن حزمة الأشعة و الطاقة التي تحملها تتجزءان. كما أن نوعية المادة التي تصنع منها المرآة عنصر حاسم في قوة و فعالية نظام أسلحة الليزر.
بدأ سباور عمله بعد أن ادخر بضعة آلاف من الدولارات، و بمساعدة إدارية من زوجته،
و أنتج أنواعا ممتازة من المرايا، لدرجة أن مخبر لوس الاموس الوطني و مخزن روستون للأسلحة و مختبر الأسلحة البحرية، اشترتها منه بحماس شديد. كما عقد صفقات بيع مع صناعيين، و باع بواسطة ولغسجانج فيبير، و هو سمسار أجهزة طبية ألماني غربي، بضع مرايا لمراكز الأبحاث الطبية و الصناعية في أوربا.
في سنة 1975، تسلم سباور رسالة تدعوه لعرض مراياه في معرض موسكو التجاري الذي تشرف عليه غرفة التجارة السوفياتية سابقا حيث فيبير سباور على قبول العرض، مشيرا إلى الثروة التي سيجنيها عبر السوق الروسية الواسعة، فشحن سباور في الخريف مرايا من مختلف الأحجام إلى فيبير الذي نقلها بدوره إلى معرض موسكو .
فغرفة التجارة السوفياتية هي بكل بساطة جزء من الدولة السوفياتية سابقا التي تمتلك وسائط الإنتاج و التوزيع. و كان نائبي رئيس الغرفة هو يوجيني بيتروفيتش بيتوفرانوف.
و قد أدلى مهندس سوفياتي سابق اسمه جوزيف اركوف بالشهادة الآتية أمام لجنة تابعة لمجلس الشيوخ : " أعرف رجلا في روسيا أوكلت إليه مهمة الحراسة الأمنية في أحد معارض موسكو التجارية. كانت هذه المهمة بمثابة نقطة تحول في مهنته : إذ أن الرجل استخدم موقعه كحارس لسرقة قطع عدة من أجهزة إلكترونية متطورة. و قد كوفئ بشكل جيد بعد ذلك".
و دار الحوار الآتي بين السيناتور سام نون و أركوف :
نون : أنت تقول بأن هذا الشخص سرق أجهزة و كوفئ بعدها بدرجة دكتوراه دولة ؟
أركوف : نعم…
نون : هل كان اللقب فخريا، أم أن هذه الدرجة موجودة فعلا في الاتحاد السوفياتي ؟
أركوف : إنه لقب فخري يتضمن مكافأة ليست أكاديمية فقط بل مادية أيضا.
نون : إنه لقب فخري…
أركوف : نعم.
لكن السوفيات لم يسرقوا مرايا سباور، بل اختاروا شراءها من فيبير و محاولة صناعة مثيلات لها في مختبراتهم. بيد أن علماءهم لم يستطيعوا اكتشاف الطريقة التي يستخدمها سباور لصقلها بهذا المستوى الرائع. كل الذي اكتشفوه هو أن المرايا كانت ذات نوعية أفضل بكثير من كل المرايا التي رأوها سابقا، و أن في وسعها مضاعفة قدرة الليزر.
في جانفي1977، قدم السوفيات عبر فيبير طلبا لكمية من المرايا، فباشر سباور و رجاله العمل بسرعة لتلبية "الطلب الروسي" كما أسموه. كانت المرايا على لائحة الأجهزة الإستراتيجية الممنوع تصديرها إلى خارج الولايات المتحدة من دون موافقة وزارة التجارة. لكن سباور اعتبر أنه لا يحتاج إلى إذن تصدير خاص و لم يقدم أي طلب بهذا الخصوص. لأن طلب المرايا مسجل باسم شركة فيبير الألمانية الغربية.
في هذه الأثناء، كان إعجاب السوفيات بإمكانيات المرايا يتزايد، فقدموا في أفريل 1977طلبا لشراء 29 أخرى، كانت كلها من النوع الذي يبرد بالماء و نصفها من النوع الكبير بشكل غير عادي (قطرها نحو 15,74إنش). و لو كانت لدى سباور بعض الأوهام حول نوايا السوفيات في استخدامهم لهذه المرايا، فإن نوعية الطلب الأخير أزالت كل الأوهام.
عندها تساءل سباور عما إذا كان عليه طلب إذن بالتصدير. و أخيرا قدم في ماي طلبا لبيع 14 مرآة صغيرة إلى الاتحاد السوفياتي. لم يذكر في طلبه 15مرآة كبيرة طلبها السوفيات منه. و عندما أصبحت الطلبية الأولى من المرايا جاهزة خلال الصيف، قام سباور و زوجته فرانسيس بشحنها إلى فيبير في ألمانيا الغربية بفواتير تقدر ثمن البضاعة بأقل من 500 دولار، و ما كان من فيبير إلا أن شحنها بسرعة إلى الاتحاد السوفياتي.
في أكتوبر، رفضت وزارة التجارة الأمريكية الطلب الذي قدمه سباور في ماي لأسباب تتعلق بــ "الأمن القومي". و كان الجواب المكتوب يتضمن العبارات التالية : "مرايا الليزر هذه… تحظى بتطبيقات مهمة في المجال العسكري" .
احتقر سباور التدخل الحكومي في الأعمال الخاصة و تواطأ مع فيبير لشحن 29 مرآة إضافية إلى السوفيات عبر سويسرا و سجلت الفواتير ثانية بقيمة 500 دولار أو أقل.
كان ثمن المرايا في الواقع نحو 40 ألف دولار، و هو مبلغ زهيد بالمقارنة مع قيمتها بالنسبة للروس. فقد قال السوفيات لفيبير أنهم أحبوا مرايا سباور و لكنهم يحتاجون إلى آلاف منها لتطوير أسلحة ليزر متنوعة و للقيام بأبحاث متقدمة على نطاق واسع، و لذلك فهم لا يستطيعون الاكتفاء بهذه الكمية القليلة التي تهرب إليهم من كاليفورنيا عبر ألمانيا إلى موسكو. و طبقا لما يقوله الكاتب يوناي، فقد عرضوا على سباور مبلغ مليون و نصف مليون دولار إذا وافق على بيعهم سر إنتاج المرايا و التجهيزات الضرورية لصقلها و تدريبهم على كيفية استخدامها.
غير أن مكتب التحقيقات الفدرالي، علم، عبر أحد موظفي سباور السابقين، بأمر الصادرات غير المشروعة التي قام بها. و في التاسع من مارس 1978، طلب محققو وزارة الجمارك و التجارة من سباور و زوجته المثول أمام المحكمة، و وجهت إليهما تهمة التآمر و تقديم فواتير مزورة إلى الحكومة و التصدير غير المشروع لمرايا الليزر إلى الاتحاد السوفياتي.
اعتمد سباور على سمعته كشخص يتحلى بالوطنية و النزاهة، و دافع عن نفسه بشكل ذكي و جذاب، و قال أنه رجل عمل بمشقة و كون نفسه بنفسه، لكنه وقع ضحية بيروقراطية متنمرة و غير آبهة و عاجزة عن فهم ما يقول. أما المرايا فهي أجهزة بريئة لا قيمة عسكرية لها البتة، و لم يكن يعرف بأنها تشحن إلى روسيا.
و في 12 ديسمبر 1980، أدانت هيئة المحلفين الفدرالية وولتر سباور بستة تهم وزوجته فرانسيس سباور بـ11 تهمة. و حكم عليه القاضي بالسجن عشر سنين مع وقف التنفيذ، عدا ستة أشهر فقط، و وضع السيدة سباور تحت المراقبة لمدة خمس سنوات. كما أمرهما بتنفيذ خدمات اجتماعية لمدة 500 ساعة و دفع مبلغ 100ألف دولار.